(8)
أحيانا نكتب لنفهم ما حدث. لا نكتب ما حدث. لسنا مؤرخين. نحن نكتب الروايات. وهو عمل الخيال بمعنى fiction. لذا فنحن نكتب مثالاً موازيا لشرح ما حدث لأنفسنا أولا، كي نفهمه. وأحيانا نكتب لنهرب مما يحدث. كأن نحفز أنفسنا لنحلم محلما ممتعا بعد يوم شديد الإرهاق. أحيانا نكتب لأننا فقط نحب ذلك: اختراع عوالم أخرى. او بالأحرى، التقاط عينة من عالمنا ووضعها في سياق مختبر آخر غير الواقع الذي كانت جزءا منه. كل ما أعرفه ولا أعرف كيف عرفته، هو أن الرواية تشبه تماما المثال النحوي. فإن كان هناك مثلا تلك النظرية لإعراب الفعل والفاعل والمفعول به، فإننا، لكي نعرب، ينبغي أن يكون هناك مثال لنعربه. بإعرابه لسنا فقط نؤكد النظرية، بل نحاول وضعها في تطبيق ما عمليا. نحن لا نعرف لماذا الفعل المضارع مرفوع، لكنه هكذا ينبغي وهكذا قيل لنا ونحن صدقنا النظرية لا أعرف لماذا، هكذا بدون جدال. لهذا، فإننا نريد تطبيقها مرارا وتكرارا لنفهم، جدوى النظرية ولماذا هي هكذا وليس بشكل آخر. نكتب كيف حزن أحمد لموت أبيه. نصف تفاصيل الجنازة والغسل بالالوان والحركات واللفتات، ربما فقط لنفهم لماذا ينبغي أن يحزن ابن لموت أب بينما طيلة حياته، كان الابن يعاند ابيه؟ نحن نكتب لنفهم النظرية. نكتب فيما نحياة لنفهم نظرية الحياة. نكتب فيما نتخيله لنفهم نظرية الخيال. قيل لنا هذه هي النظريات. قيلت لنا في وقت مبكر جدا ولم نكن نملك أن نرفضها. لأننا ببساطة لم يكن لدينا أي نظرية بديلة. ولأننا لا نريد أن يصدمنا كوننا واقعين تحت وطأة النظرية لا نجد أنفسنا نكسرها بقدر ما نجد أنفسنا نحاول اقتفاءها في الأمثلة التي تعبر عنها.
يعني مثلا، إذا قيل لنا أن الرواية لا بد تعتمد شخصيات وحبكية وصراع درامي، خيوط درامية تصل بالحبكة إلى ذروتها ثم تنفك العقدة إلى النهاية، فإننا مهما حاولنا أن نكسر هذه النظرية فإننا لا نتمكن من ذلك. قد نلعب في التفاصيل غير المهمة. مثل تكنيك الكتابة. الاستعاضة عن السرد المسهب بمشاهد تبدو اكثر قربا من السيناريو عنها من السرد الروائي، أو أن نلعب قليلاً بالمحطات الزمانية المكانية ونبدلها ونغيرها بفلاشات باك أو تداخل أزمنة أو تلاحق خلفيات مكانية على حوار واحد. هنا نحن نغذي التفاصيل التكنيكية باستعارة أساليب سينمائية أو مسرحية داخل العمل الروائي لكننا لا نتمكن من خرق النظرية. لا يمكننا أن نجعل المضارع منصوبا، أو منوَّناً.. ينبغي أن يبقى مرفوعا. هكذا أيضا نظرية الرواية. ينبغي أن تبقى أساسياتها مثلما علمونا في المدرسة. لماذا؟ لأنهم قالوا ذلك. لهذا فمهما كتب الروائي من روايات، فإن لا يزال يستمر في كتابة روايات أخرى. لأنه مازال لم يتمكن من شق طريق آخر للرواية عجا الذي تعلمناه في المدرسة. لهذا يستمر . لأنه مازال عليه أن يحاول.
يقال إن في الحياة عوالم موازية لنا، فنلعب بهذه الفكرة في الروايات. يقال لنا الذات الانسانية مركبة وبداخلها وحدها مجموعة من العوالم المتداخلة، نلعب بذلك في الروايات. نحن أسري ما نعرفه. ما يقال لنا. . ولو خرجنا عن نظرية الرواية نكون نكتب يوميات لا يهم فيها العقدة الدرامية، أو رسائل، لا يهم فيها الصراع بين الأبطال.. في النهاية نكون نكتب شيئاً آخر وليس رواية.
إننا نحب الروايات، برغم علمنا إنها في النهاية تعبر عن عالم خيالي حتى وإن كان فيه شذرات من الواقع أو يدعي الواقعية. نحب أن يحكي لنا شخص عن شيء. أن يضعنا في اعتباره. نحاول أن نجد أنفسنا في هذه الشخصية أو تلك. نحاول أن نجد لأنفسنا معادلا في التطبيق لنشعر بأمان داخل نسق النظرية. نحاول أن نجد اعتراف النظرية الروائية بنا. نقرأ الروايات مثلما نقرأ كتب الأبراج. نقرأ لربما نجد برجنا مذكورا، بصفاته وما سيحدث له. وإن لم نجد في الشخصيات كلها اي من ذلك، نضع أنفسنا مكان الكاتب بتقنياته الروائية. وإن لم نجد أنفسنا فيه هو ايضا، نجد أننا لا نحب الرواية. إننا أنانيون فعلا كقراء. ونلعب مع الكاتب هذه اللعبة: إن كنت تريد أن تكتب لتخلد نفسك، ينبغي فيما تكتبه أن يخلد غيرك، أو تماس ما مع غيرك. القارئ يريد أن يكون "فيها لألا يخفيها".
أيضا نريد أن نتعلم شيئا من الرواية يفيدنا في حيانا العملية. جملة حوار. موقف. أي شيء. لا نكتفي بالمتعة فقط. نحن ندفع ثمن النسخة لنحصل على المتعة وأيضا على النصيحة. نريد الرواية إذا أن تكون عشيقتنا وأمنا في الوقت نفسه، ونطالب الكاتب بذلك. ألا ترى كم القراء الذي يسالون عن الرواية "ما مضمونها؟" ثم يقرأون ويقولون "ممتعة"؟ ألم يحدث لك ذلك أنت نفسك؟ ألم تترك كثير من الروايات في صفحاتها الأولى ولا تكمل قراءتها لأنها "لم تجذبك"؟ ما هذا الانجذاب المطلوب في الصفحات الأولى للرواية؟ أهو المشجعات الحسناوات في المباريات؟ أهو المهرج على باب السيرك قرب شباك التذاكر؟ ما الذي يجعل هذه الداية جذابة وتلك لا؟ ما هو المنطلق؟ متى ينجح الكاتب إذ يجيب في صفحاته الأولى عن جملة : من اين ابدأ؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق