الأربعاء، 3 فبراير 2010

الرواية كيف (9)

(9)

كل يوم نستيقظ بعد حلم ما، أو حالة مزاجية تأتينا في النوم وتصحبنا إلى اليقظة حتى نفقدها تدريجيا مع الحركة خروجا من السرير إلى صنع الشاي او القهوة وفتح النافذة. كل يوم نفتح النافذة فنجد نهارا ما بانتظارنا. نفتح أعيننا ونفتح النافذة. ونرى اناسا يعبرون. في الذات مثلما في الشارع. ونقول لأنفسنا، ياه، كل هؤلاء البشر. يا ترى ماذا يحملون من حكاياتهم ليرووه لنا لو استطاعوا. نتجسس قليلا على الشارع مثلما نتجسس على ذاكرتنا. حبال الغسيل وما تحويه من ملابس تعبر عن حيوات سكان هذه الشقة أو تلك. الكراكيب في البالكونات. أحيانا بعض النباتات. الواجهات تعبر كثيرا عن قاطني الداخل. أو لنقل تعبر بالضرورة عن ما يريدوننا أن نراه فيهم، تماما كالملابس التي نرتديها للخروج إلى العمل. لكن أحيانا تشي هذه الواجهات بقد ما لا يريد قاطني دواخلها أن يفضحوه. غيارات أطفال بالت على نفسها أثناء النوم، ملاءات سرير الزوجية المطرز .. لا أعرف. أحيانا، شيء من الفوضي. شيء مما لا نتمكن من كتمانه برغم الرغبة في ذلك. مثل انتفاخ الجيوب تحت أعيننا بعد ليلة من الأرق. أشياء ملحة تجعلنا لا نتمكن من ضبط المظهر.. أحيانا يكون ما كتبناه ملحا لدرجة حتى أثناء اجراءات نشره لا نهتم بكيف سيكون الغلاف.

شيء من الفوضى. نعم. ذلك مهم جدا. فهم أن كل شيء يسير كما ينبغي، فلماذا كنا سنكتب؟ شيء من الفوضى ليحفز الحاجة إلى نظام. ليحفز الخيال لخلق عالم له نظامه الخاص داخل هذه الفوضي. شيء من الفوضي لتحفيز الرغبة في خلق نظام خاص. نظام بالتالي يحتفي بفكرة الخصوصية. نلعب فيه بشيء من الحرية. على الأقل في بداية اللعب، قبل أن نرسي قوانين اللعبة.
في بداية الكتابة تكون كل الاحتمالات موجودة ومتاحة. لكل كاتب. على قدر سعته. هنا لحظة نشوى وتيه. كل شيء ممكن. لأن كل شيء مازال في حيز الإمكانية لا الفعل. لكن ما إن نخط بالقلم إلا وقد بدأنا. ولكي نكون قد بدأنا، نكون قد اختما بداية لما سيأتي لاحقا. اي نكون قد أقصينا كل احتمالات البدايات الأخرى. في الأفلام رومانتيكية القديمة، كنا نجد البطل الذي يريد أن يكتب رسالة لحبيبته، يبدأ الكتابة ثم يمزق الورقة ثم يبدأ من جديد بداية أخرى تكرارا ويمزق الأوراق مرارا.. إلى أن يهتدي للبداية المطلوبة. وهي بالضرورة التي تقف اكثر في الموقف التوفيقي بين ما يعبر عن مشاعرة ما يؤثر في محبوته التأثير المرجو. وعندما نبدأ رواية. عندما نقرر هذه البداية ونقصي كل الاحتمالات الأخرى، فإننا بالضرورة نظن أن هذه هي البداية التي ستجعل استرسال التالي حتى نهاية الرواية يعبر عنا ويؤثر أيضا في محبوبنا القارئ لكي يقنعه بهذا الحب الذي اسمه الرواية.

لكن تماما مثلما في الأفلام الرومانتيكية القديمة، تحدث أشياء. سوء تفاهم أو خطأ في التوقيت أيا ما يكون قد يجعل الرسالة لا تصل إلى المحبوبة. أو قد تصل لكن في التوقيت غير المناسب. هناك كتاب أذكياء. يلحون على التأكد من إصدار رواياتهم مثلا قبل معرض الكتاب، وأن يكون لها قراءة وحفل توقيع أثناء المعرض. إنهم كتاب متفانون. يرغبون بشدة في توصيل رسالتهم لقارئها. ويطرقون كل السبل لذلك، صحافة، إعلام ، مناسبات، مسابقات، جوائز.. وهناك أيضا كتاب رومانتيكيون في علاقتهم هذه، يعتقدون أن الحب خالد. وجذوته يمكن أن تدفئ الحبيب في أي مكان وزمان. فيعاملون رواياتهم بهذه الطريقة. لا يهتمون بميعاد صدور رواياتهم ولا بصنع ضجة إعلامية حولها ولا يسعون ورا المسابقات ولا الجوائز. إنهم الكتاب الخجولون. إنهم أبناء لحظة كتابة ملفوفة في ورقة وموضوعة في زجاجة وملقى بها في البحر.
لا أعرف لماذا كتبت ذلك. وقد كان كل ما أردتُ كتابته، هو أنني عندما كنت صغيرة، كنت أنتهز لحظات الفوضى، أو لأوضح واقول الليالي التي لم تكن فيها أمي لتتمكن من قراءة حكاية لي قبل النوم، كنت أستغل هذه اللحظات الاستثنائية العزيزة لأحكي لنفسي. كانت كل حكاياتي تبدأ من الشارع. كانت هناك بنت، وكانت تمشي في الشارع، ثم حدث كذا وكذا.. وتبدأ المغامرات تتلاحق حتى أخلد للنوم. وكأن هذه البنت لم يكن لها بيت.
في الكتابة شيء من هذه الرغبة في المغامرة. في نسف البيت بكل نظمه التربوية والتعليمية، والهيكل التراتبي لمقامات من فيه. هناك توق لأن نلقي بأنفسنا في الشارع. في أن يمزقنا الجموع. في أن يأكل كل منهم قطعو منا. لكي نبقى فيهم، في خلاياهم وأنسجتهم وذاكراتهم للأبد. هذه هي إحدى الدوافع الغريزية للكتابة: تخليد الاسم. حتى وإن كان قربانه تمزيق الذات. هناك كتاب أصيبت حياتهم البيتية بدمار شامل لأنهم أصروا حتى النهاية إنهم كتاب قبل كل شيء. من الصعب على الكثيرين الحفاظ على البيت والشارع في نسيج واحد. فمنذ الصغر تعودنا أن هناك أشياء تحدث في البيت لا ينبغي ان تقال في الشارع. وأن ملابس البيت تختلف عن ملابس الشارع. هذا الفصل الحاكم بين الخاص والعام. قد التبس عن الكثيرين لدرجة أنهم توهموا أن عليهم الاختيار بين الحياة البيتية والحياة الإبداعية. لقد التبس عند الكثيرين، فما بالك عند الكثيرات. الكاتبات اللاتي ينبغي أن يطبخن وينظفن البيت ويربين الأطفال ويكتبن الروايات. داخل نفس البيت. هنا ينبغي كسر وهم الطفولة عن بداية الحكاية عند النزول إلى الشارع. هنا، ينبغي تضفير كل شيء. كل الخصلات بكل ألوانها في ضفيرة واحدة. وإلا أظنها ستكون إما كتابة سطحية لا روح فيها، إما بيت واهٍ يتصدع مع أول ريح تمر. نحن كاتبات الروايات، المتزوجات صاحبات الأطفال، ينبغي أن نفكر في أنفسنا باعتبارنا جزءا من رواية اسمها حياتنا الشخصية المموطوطة بما فيها من زوج وأطفال وعمل وأعباء منزلية وتربوية. والتي لسنا بالتالي فيها وحدنا، ما خيالنا وذكرياتنا وقراءاتنا ونتف الشارع التي نحصدها قبل الدخول إلى البيت. ولكي نستمر في الكتابة، بنفس الحيوية والطموح والإقبال، يجب أن نكافئ أنفسنا كل يوم على كوننا كذلك. كاتبات برغم كل شيء. كاتبات مع كل هذه الأشياء. وينبغي أن نعرف أننا بطلات. نجاهد في كل لحظة من اللحظات التي نحياها، بين المطبخ والمنشر والفروض المدرسية لأبنائنا والإنصات لأزواجنا وانشغال أذهاننا بإدارة بيت بأكمله. نحن مناضلات بحق. وينبغي أن نكافئ أنفسنا على ذلك بأن نكتب، كيفما نحب. بهذه الجسارة وأحيانا بهذا الحمق، الذي جعلنا نقرر أن نتحمل فوق عبء انشطاراتنا الذاتية، عبء عائلة بانشطارات كل من فيها، ووسياق مكاني يحدث فيه تراكم زماني، سياق اسمه البيت.

لم يكن هذا ما ايضا ما أردتُ كتابته. لكنه أمر ملح ففرض نفسه. وأنا أحيي بكل الاحترام، كل كاتبة متزوجة وتعول، قررت أن تدمج الأدوار كلها في ذات واحدة. ببساطة لأن هذا ليس سهلا بالمرة. إنه الاختيار الأصعب.
سأعطيكم هنا مثلا. علمت أطفالي معاني الألوان في إشارات المرور. حتىأنهم بدأوا يلاحظونها عندما نخرج في نزهة. وبدأوا بذلك أيضا ملاحطة أن نظام المرور عندنا لا يمشي دائما على ما تقوله إشارات المرور، فهل أقول لهم، مع أول نزول للشارع واعين إشارات المرور، أن النظرية شيء والتطبيق شيء آخر؟ أم اقول لهم إن نظام المرور عندنا فاشل في أغلب الإحيان ولا أحد يتبع القواعد؟ أم اقول لهم إن هذا الفلان المهم يمر بهذا الشارع لذا كل شيء في الإشارة سيكون تحت أمره الآن إلى أن ينتهي مروره؟ الخ الخ.. ماذا أقول لأبناء الرابعة من العمر كأم كاتبة، واعية؟ مهما قلت سيدرك راداراتهم القوية في هذا العمر أن النظرية شيء والتطبيق يتوقف على المطبقين لا على اتباع النظرية. وسأنشيء فيهم بوعي مني، وبضغط الشارع الذي لا يمكنني التحكم فيه من أجل أبنائي، ازدواجية الكائن، التي تنعكس فيما بعد على المثقف بشكل عام والكاتب بشكل خاص. موقف كهذا الذي حدث مع أطفالي لا يمكن أن يحدث ويؤثر بهذه الدرجة إلا في كاتبة هي بالضرورة أم.
هنا والآن فقط، أفهم لماذا كانت كل حكاياتي لنفسي قبل النوم تبدأ بالنزول إلى الشارع. حيث النظريات الواهية التي أتعلمها في البيت لا جدوى منها، وحيث المغامرة مع الغير متوقع من الأشياء التي قد تحدث في الشارع يفتح أفق الامكانية لكل الاحتمالات، تماما كبداية رواية لم نقرر لها بعد كيف سيكون خط سيرها. لكن في الحكاية، النزول للشارع آمن، لأنه حتى الاحتمالات الأكثر خطورة، هي احتمالات من نسج الخيال، ذلك الخيال، الذي في البداية، وقبل النزول إلى الشارع، تربى في البيت.

الثلاثاء، 2 فبراير 2010

الرواية كيف (8)



(8)

أحيانا نكتب لنفهم ما حدث. لا نكتب ما حدث. لسنا مؤرخين. نحن نكتب الروايات. وهو عمل الخيال بمعنى fiction. لذا فنحن نكتب مثالاً موازيا لشرح ما حدث لأنفسنا أولا، كي نفهمه. وأحيانا نكتب لنهرب مما يحدث. كأن نحفز أنفسنا لنحلم محلما ممتعا بعد يوم شديد الإرهاق. أحيانا نكتب لأننا فقط نحب ذلك: اختراع عوالم أخرى. او بالأحرى، التقاط عينة من عالمنا ووضعها في سياق مختبر آخر غير الواقع الذي كانت جزءا منه. كل ما أعرفه ولا أعرف كيف عرفته، هو أن الرواية تشبه تماما المثال النحوي. فإن كان هناك مثلا تلك النظرية لإعراب الفعل والفاعل والمفعول به، فإننا، لكي نعرب، ينبغي أن يكون هناك مثال لنعربه. بإعرابه لسنا فقط نؤكد النظرية، بل نحاول وضعها في تطبيق ما عمليا. نحن لا نعرف لماذا الفعل المضارع مرفوع، لكنه هكذا ينبغي وهكذا قيل لنا ونحن صدقنا النظرية لا أعرف لماذا، هكذا بدون جدال. لهذا، فإننا نريد تطبيقها مرارا وتكرارا لنفهم، جدوى النظرية ولماذا هي هكذا وليس بشكل آخر. نكتب كيف حزن أحمد لموت أبيه. نصف تفاصيل الجنازة والغسل بالالوان والحركات واللفتات، ربما فقط لنفهم لماذا ينبغي أن يحزن ابن لموت أب بينما طيلة حياته، كان الابن يعاند ابيه؟ نحن نكتب لنفهم النظرية. نكتب فيما نحياة لنفهم نظرية الحياة. نكتب فيما نتخيله لنفهم نظرية الخيال. قيل لنا هذه هي النظريات. قيلت لنا في وقت مبكر جدا ولم نكن نملك أن نرفضها. لأننا ببساطة لم يكن لدينا أي نظرية بديلة. ولأننا لا نريد أن يصدمنا كوننا واقعين تحت وطأة النظرية لا نجد أنفسنا نكسرها بقدر ما نجد أنفسنا نحاول اقتفاءها في الأمثلة التي تعبر عنها.
يعني مثلا، إذا قيل لنا أن الرواية لا بد تعتمد شخصيات وحبكية وصراع درامي، خيوط درامية تصل بالحبكة إلى ذروتها ثم تنفك العقدة إلى النهاية، فإننا مهما حاولنا أن نكسر هذه النظرية فإننا لا نتمكن من ذلك. قد نلعب في التفاصيل غير المهمة. مثل تكنيك الكتابة. الاستعاضة عن السرد المسهب بمشاهد تبدو اكثر قربا من السيناريو عنها من السرد الروائي، أو أن نلعب قليلاً بالمحطات الزمانية المكانية ونبدلها ونغيرها بفلاشات باك أو تداخل أزمنة أو تلاحق خلفيات مكانية على حوار واحد. هنا نحن نغذي التفاصيل التكنيكية باستعارة أساليب سينمائية أو مسرحية داخل العمل الروائي لكننا لا نتمكن من خرق النظرية. لا يمكننا أن نجعل المضارع منصوبا، أو منوَّناً.. ينبغي أن يبقى مرفوعا. هكذا أيضا نظرية الرواية. ينبغي أن تبقى أساسياتها مثلما علمونا في المدرسة. لماذا؟ لأنهم قالوا ذلك. لهذا فمهما كتب الروائي من روايات، فإن لا يزال يستمر في كتابة روايات أخرى. لأنه مازال لم يتمكن من شق طريق آخر للرواية عجا الذي تعلمناه في المدرسة. لهذا يستمر . لأنه مازال عليه أن يحاول.
يقال إن في الحياة عوالم موازية لنا، فنلعب بهذه الفكرة في الروايات. يقال لنا الذات الانسانية مركبة وبداخلها وحدها مجموعة من العوالم المتداخلة، نلعب بذلك في الروايات. نحن أسري ما نعرفه. ما يقال لنا. . ولو خرجنا عن نظرية الرواية نكون نكتب يوميات لا يهم فيها العقدة الدرامية، أو رسائل، لا يهم فيها الصراع بين الأبطال.. في النهاية نكون نكتب شيئاً آخر وليس رواية.
إننا نحب الروايات، برغم علمنا إنها في النهاية تعبر عن عالم خيالي حتى وإن كان فيه شذرات من الواقع أو يدعي الواقعية. نحب أن يحكي لنا شخص عن شيء. أن يضعنا في اعتباره. نحاول أن نجد أنفسنا في هذه الشخصية أو تلك. نحاول أن نجد لأنفسنا معادلا في التطبيق لنشعر بأمان داخل نسق النظرية. نحاول أن نجد اعتراف النظرية الروائية بنا. نقرأ الروايات مثلما نقرأ كتب الأبراج. نقرأ لربما نجد برجنا مذكورا، بصفاته وما سيحدث له. وإن لم نجد في الشخصيات كلها اي من ذلك، نضع أنفسنا مكان الكاتب بتقنياته الروائية. وإن لم نجد أنفسنا فيه هو ايضا، نجد أننا لا نحب الرواية. إننا أنانيون فعلا كقراء. ونلعب مع الكاتب هذه اللعبة: إن كنت تريد أن تكتب لتخلد نفسك، ينبغي فيما تكتبه أن يخلد غيرك، أو تماس ما مع غيرك. القارئ يريد أن يكون "فيها لألا يخفيها".

أيضا نريد أن نتعلم شيئا من الرواية يفيدنا في حيانا العملية. جملة حوار. موقف. أي شيء. لا نكتفي بالمتعة فقط. نحن ندفع ثمن النسخة لنحصل على المتعة وأيضا على النصيحة. نريد الرواية إذا أن تكون عشيقتنا وأمنا في الوقت نفسه، ونطالب الكاتب بذلك. ألا ترى كم القراء الذي يسالون عن الرواية "ما مضمونها؟" ثم يقرأون ويقولون "ممتعة"؟ ألم يحدث لك ذلك أنت نفسك؟ ألم تترك كثير من الروايات في صفحاتها الأولى ولا تكمل قراءتها لأنها "لم تجذبك"؟ ما هذا الانجذاب المطلوب في الصفحات الأولى للرواية؟ أهو المشجعات الحسناوات في المباريات؟ أهو المهرج على باب السيرك قرب شباك التذاكر؟ ما الذي يجعل هذه الداية جذابة وتلك لا؟ ما هو المنطلق؟ متى ينجح الكاتب إذ يجيب في صفحاته الأولى عن جملة : من اين ابدأ؟

السبت، 30 يناير 2010

الرواية كيف (7)

(7)

والآن أسأل نفسي، لماذا هذا الاهتمام المحموم بالرواية في اللحظة ذاتها التي أريد فيها أن أضغط على زر الحذف وأنهي الوجود الوحيد المتبقي الرقمياً لرواياتي غير المكتملة على هذا الجهاز؟ لماذا الآن شهرياري الداخلي يريد أن يقطع الشك باليقين، وشهرزادي تماطل وتكتب في مسألة الرواية؟ إجابة الوهلة الأولى: ببساطة لأنني إنسانة. لست ملاكا بما يكفي لعدم قتل الأوراق، ولست شيطانا بما يكفي لنسف آخر دليل على أني كتبت. آخر أمل، لا أعرف فيما... لستُ شيطانا بما يكفي لأقطع شعرة معاوية. ولست ملاكا بما يكفي لأبقيها مرخية. أنا إنسانة. شددتُ الشعرة وتركتها مشدودة. وأعرف أن الشعرة ذاتها تتألم. وتتمنى أن زيح عنها قبضتي أو أن أقطها لينتهي الألم. ذلك لأنها شعرة حية. كاللاتي في راسي.
أنظر إلى نفسي. لي عينان وأنف وفم وأسنان. لي يدان وأذنان وقدمان. اشبه كل الناس. بداخلي أمعاء وقلب ورئة وأعصاب وشرايين. مثل كل الناس. ومثلهم أيضا، تعرف هذه الأشياء التي لي كيف تعمل من تلقاء نفسها دون اي تدخل مني. وأتساءل. عندما أقص أظافري، كيف حدثت أصلا، وماذا سيحدث اللمقصوص بعد وضعه في سلة القمامة. كيف ستكون رحلته. المقصوص من الأظافر كيف يعبر عن رضاه أو سخطه حيال رحلته معي، ملتصقا بأصابعي، ورحلته بعدي، مقصوصا منها.. هذه الغصة التي أشعر بها بينما أتسال بالفعل. وبمنتى الجدية. بدون سخرية وبكثير من الاهتمام.. هل هذا أيضا ما يشعر به ويتساءل عنه كاتب الرواية بعد طبعها؟
ابنتي عندما تكبر وتستقل بحياتها بعيدا عن البيت يمكنها أن تقابلني أحيانا وحكي لي قصاصات من حياتها. لكن اظفري المقصوص لن يتمكن من ذلك بعد أن يخرج من حياتي. لهذا أن أريد الآن أصفع كل من يقول إن أعماله الأدبية كأبنائه. لا. إنهم ليسوا كابنائي. إنكم كإظفري. قطعة مني. كانت حية معي. وليست حياة أخرى، حدثت من خلالي. هذا الظفر الذي أقصه الآن وأقصه بشكل دوري واعتيادي جدا، كان يحكي لي عن نفسه بزرقته عن ألم انحشاره في وربة الباب، وكان يحكي لي عني، ببقعة بيضاء صغيرة يظهرها لي كعلامة عن احياجي للفيتامين، كان يعبأ بي، ويتأثر بحالي، هذا الاظفر كان لينحني ويتشقق ضعفا لأجلي إذا لم أهتم بتناول منتجات الالبان. إنه إظفري كيف يشب ليخرج من لحمي، كيف أمكنه، وكيف أمكنني أنا أن أقصه هكذا؟!! وهكذا تنتهي علاقتنا. حياته تصير غيباً بالنسبة لي. هذه هي علاقتي بما أكتبه.ٍ عندما أقصه من لحمي وأتركه للنشر، فهو لن يتمكن من العودة إلي مرة أخرى. لن يحكي لي عن حياته بعد النشر. لن يحكي لي عن حياتي بعد نشره. وإن جاء قارئ لحدثني عما كتبت، فتكون هذه رؤية القارئ. وليست رؤية المكتوب. الذي أحبه. وأنفصل عنه نهائيا. لأنه هكذا، ينبغي أن ننفصل نهائيا في الوقت المناسب، عما نحب، حتى وإن كان جزءا منا. وهذه يؤلمني. مزقت الأوراق وحرقتها في لحظات ثائرة على هذا الوضع الذي لا فرار منه. ثرتُ لنا هي وأنا، عليها. كبطل في أحدى المسرحيات اليونانية. البطل الثوري الذي يثور على القدر ويسخر من إرادة الآلهة. والذي بالضرورة يكون هو، هو وحده، من تختاره الآلهة لينجز مهمتها. لأنه متمرد بما فيه الكفاية كإله خالق، وأحمق بما فيه الكفاية، كمخلوق.
لكن هناك أمور ممتعة أيضاً في كون الواحد إنسانا. مثلا أنه يمكنه تأمل خلايا جلده. واعتبار كل خلية منها بدورانها وحركاتها حول مركزها مجموعة شمسية كاملة. إذا نظرتُ لكل خلايا جسمي الداخلية والخارجية بهذه الطريقة، فكم مجموعة شمسية تكون؟ وكم من الأراضين عليها؟ وكم من الحيوات على تلك الأراضين هي روايات أخرى تكتب نفسها افتراضيا، حتى وأنا نائمة، وتترك لأصابعي وحدها، ذات الأظافر المقصوصة، أن تخرج تلك الحيوات وتؤرخ لها في وجود إسمه أنا، يمكنه أن يمسك بالأقلام والورق، أو ينقر على لوحة المفاتيح أشياء طلسمية اصطلحوا عليها بالحروف والكلمات، واخترعوا لها معانٍ ودلالات. التأريخ لما لا يؤرَخ له تاريخيا. هذا وحده سبب أكثر من كاف لكتابة رواية ولتلمس إظفر ومحبته حتى وإن كنت سأضطر فيما بعد أن اقطعه.

الرواية كيف (6)

(6)

من هو الكاتب؟
سؤال فجرته المقال السابق. وضح لي في النهاية أنني ألهث وراء المكتوب لأرى الكاتب. من الكاتب؟ لا يهمني المكتوب بقدر ما يعطيني علامات إرشادية في طريقي لمعرفة الكاتب.
الكاتب هو نفسه شخصية درامية في مسلسل الحياة هذه الذي لا ينتهي. الكاتب علامة. كود. دور. لهذا فالكاتب شخصية وليس شخصاُ عندما نرى الحياة رواية من أجزاء. ما يكتبه الكاتب هو شهادته في هذه الرواية. هو الدليل على أنه مر بهذه الرواية التي اسمها الحياة. المكتوب إذا ليس له أهمية إذا ما كان مفتاح للإرشاد على كاتبه. هناك روايات مملة نتركها من الصفحات الأولى ولا نعود لها أبداً لأنها ببساطة وكمفتاح يدل على كاتبها، ليست مفتاحا جيد الصنع. لم يصقله الكاتب بعد. لم يكن الكاتب بعد قد عرف في نفسه جوهرها، لم يكن قد استدل أولا على نفسه لكي يدلنا مكتوبه عليها. فإذا كان الله فعلا قد خلقنا على صورته. فعلى الرواية أن تكون صورة للكاتب. الرواية كلها، بكل شخصياتها واحداثها وتفاصيلها ومحنتها وكل حرف ومسافة ونقطة فيها. كلها بتكاملها صورة للكاتب. لما بلوره في نفسه قبل وفترة كتابتها. في كل شخصية من الشخصيات نتفة من الكاتب، كذلك في كل جملة حوار، وفي كل وصف لمشهد.

هناك خدعة نقوم بها حيال أنفسنا نحن الكتاب. إننا نزعم أننا نكتب للخارج. نكتب لنفهم العالم، لنغير العالم، لنعبر عن العالم.. أسباب واهية تجهل من العالم هو المرصود من قبل الكاتب وهو الهدف المراد الوصول إليه. هذه الخدعة نقوم بها أحياناً لا شعوريا. مثلما ينظر طفل في المرآة لأول مرة ويقول لأمه لقد وجدتُ طفلاً. ويصبح لمدة أيام هذا الطفل الذي في المرآة هو شغله الشاغل. إنه لا يعرف أن هذا العالم او هذا الطفل، سمه ما تشاء، هو صورة لشخصه هو. الطفل لا يعرف. لكن الطفل الذي بداخل كل كاتب يعرف تماماً لكنه يتلاعب ويهزأ بيقين ذلك ال"كبير" الذي ندعي أننا نكونه، ويغيب المعرفه عنه، ليرده إلى لحظة المرآة الأولى. ربما يتذكر أو يتعلم.
والدليل على ذلك هو إننا نقول أيضا أحياناً نحن الكتاب، أن العالم لا يفهمنا، أن العالم يقف منا موقف العدو. إنه يعاندنا أو يتجاهلنا، أو ببساطة يعاكسنا المسار. هنا يخرج الطفل الذي بداخلنا لسانه لنا "ككبار نتكلم عن العالم" بنفس الطريقة التي كنا بها صغارا نبرهن لأمهاتنا إن الذي في المرآة ليس نحن، لأننا عندما نحرك يدنا اليمنى، يحرك الطفل في المرآة يده اليسرى، لا يحرك اليد التي نحركها! إنه يقف منا موقف النقيض، موقف التضاد. إنه يعاكسنا.
هكذا فإننا صغارا او كبارا، نرفض النظر إلى أنفسنا باعتبارها كذلك، أنفسنا. نطمح إلى الوصول لها أو فهمها أو تغييرها، لكن باعتبارها ليست نحن. نراها تعاكسنا وتتضاد معنا باعتبارها ليست نحن. في كل الاحوال، نرفض في أن نرى في أنفسنا شيئاً سوى أنها آخر بعيد منفصل عنا نفعل له أشياء ويفعل لنا اشياء. وهكذا نصطلح لاشعورا لهذه الأنا اسم "العالم" فعندما نكتب لنمتع القارئ، فنحن بالضرورة نريد أن نمتع أنفسنا. وعندما يلفظنا العالم فإننا بالضرورة قد لفظنا أنفسنا واعتبرناها لا تستحق الاعتراف. فالعالم هو أنا. هذا هو الانعكاس في المرآة. وإن لم أكن أرى ذلك اولا باعتباره قاعدة أولية إلزامية فأنا بالضرورة سأكتب رواية رديئة. أو في أحسن الأحوال، سأكتب رواية لا يميزها شيء أصلي فيها عن سلسلة مكرورة من الروايات التابعة للمقاييس المتعارف عليها روائياً فحسب. وأنا ككاتبة لست هنا لأعيد خلق نفسي على شاكلة معايير الرواية، لكن لأجعل من رواية مخلوقا على صورة التي وصلتُ إليها عن نفسي منذ الميلاد إلى اللحظة التي خططتُ فيها أول حرف في العمل الروائي.

الرواية كيف (5)


(5)

استيقظتُ اليوم على صوت ابني ذي الأربع سنوات من العمر يسأل أخته التوأم إن كانت انتهت من استخدام المرحاض لأنه يحتاجه. كانا في الحمّام. تخيلتها جالسة وهو واقف يقاوم خروج اي شيء من مؤخرته في غير محله. صوته كان فيه شيء من الاتجداء وحث أخته على الانتهاء. وصوتها كان فيه شيء من التشفي وهي تقول إنها لم تنتهي بعد. بدا لي من صوتها إنها انتهت بالفعل، لكنها تمثل كونها ممسكة وتحتاج لوقت أطول على المرحاض.
أنا هنا أمام عناصر حدث مكتملة. الشخصيات. المكان والزمان. الموقف الذي يربط الشخصيات. طبيعية كل شخصية وصفاتها من صوتها وكلامها وحركتها دتخل الموقف. وعقدة درامية تحث على السؤال حول نهاية الموقف كيف ستكون.
أنا هنا إذا أمام موقف درامي. وليس امام رواية. وما حدث بعد ذلك جعلني أعيد النظر في أمور كثيرة. فقط كان رد فعل ابني تجاه ابنتي التي قد تكون ممسكة فعلا أو تدعي الأمساك مؤثرا جدا. اقترح الولد أن يحكي لها حكاية لكي تهدأ أعصابها وتتمكن من الإخراج. أخذ كتاب من كتبهم الغير مدرسية. كتاب عن الديناصورات يحبه هو جدا. كتاب. وليس قصة. ومن صور الديناصورات بدأ ينسج لها حكاية، وبدأت هي تشارك في إنتاجها للحكاية أيضا.
في الصفحة صور لديناصور واحد مرة عن قرب شديد ومرة عن قرب فقط ومرة عن بعد. الابن قال إنه كان ياما كان ديناصور يقف في البعيد وكان جوعاناً فبدأ يقترب مرة فأخرى من فريسته التي هي أنا لأنه أمامي في الصورة. دخل الحمام وقال أنت صغير جدا ولا تكفي لإفطاري. سآكل أختك معك. وعندما دخلنا أنا (يقول الابن مازال) وأنتِ (متوجها بالحديث لأخته) وجدنا بطن الديناصور واسعة جدا جدا من الداخل. أوسع من الحمام. وسألنا بعضنا كيف كان الديناصور كله في الحمام وبطنه وحدها أوسع من الحمام كله...
أما تدخل الإبنة التوأم فكان كالآتي: أولاً أنكرت تماما الحكاية الأولىٍ وقالت إن الأمر ليس كذلك. إنهم الديناصور بابا والديناصورة ماما والديناصور النونو وهم يقفون على الورقة لأنهم ليس لهم أرض يقفوا عليها. وكان المكان مظلم لديهم حتى انفتح الكتاب فرأوا النور، ووجدوا أنفسهم أمام ولد وبنت فنظروا إليهما وسألاهما إن كان يمكن ان يبقيا عندهما لأنهم ليس لديهم بيت سوى هذا الكتاب الذي ليس فيه أرض ولا حجرة ولا حتى طعام...
في النهاية تمكنت عملية الحكي من انهاء حالة امساك ابنتي وتمكن ابني بالتالي من أخذ دورة على المرحاض. وانتهم العملية الصباحية بنجاح. وأنا مندهشة مستمتعة بكلتي الحكايتين، بل وبالدافع الذي حكيا من أجله. كان الحكي هنا ضرورة لكلا الطفلين. ضرورة بايولوجية!

بالإضافة، فإنني عندما أنظر إلى الحدث الأساسي، وإلى الموقف الدرامي بداخله الذي استدعي عملية الحكي، ثم إلى الحكايتين الداخليتين في باطن الحدث الأساسي، ثم نهاية هذا الحدث، هذه النهاية السعيدة لبطليه الطفلين، أرى أنني أمام نسيج مثل نسيج الف ليلة وليلة. حكاية اساسية داخلها مجموعة من الحكايات الفرعية المتلاحقة لسبب يخدم بالأساس النهاية المرجوة من الحكاية الأساسية.

إننا نقوم بذلك كل يوم. حكاية من داخل حكاية من خارج حكاية. ولأسباب تخدم الحدث الأساسي الذي فيه الموقف المراد الخروج منه، عبر الحكايات. نفعل ذلك شفاهة طوال الوقت. لكن عندا يتحول الشفاهي إلى مكتوب تكون لدينا متعة مستقبلية في انتظارنا، متعة أن نقرأه مرة أخرى. أن يقرأه غيرنا ممن لم يشهده معنا أيضا، والتشويق ليس فقط في داخل الحكاية وموجه للقارئ وحده، بل التشويق يكون ايضا من المكتوب تجاه الكاتب الذي يفكر، من سيقرأ المكتوب بعدي. عندما نحكي الحكاية فهي من فلان إلى فلان، أو عن فلان ابن فلان، نعرف مصدرها، هذه الجدة أو تلك الخالة، ونعرف منتهاها، هذا الحفيد أو هذه البنت، وفي النهاية قد لا تخرج الحكاية عن سلسال الأسرة الواحدة. جيلا بعد جيل. لكن عندما نكتب الحكايات، تبقى متعة الشفاهي مكتوبة، ويكون المجهول هو القارئ. من فلان إلى.... لا أحد يعرف. ويؤثر عدم المعرفة هذا سلبا وإيجابا في المكتوب. سلباً، لأن الهدف من الحكي صار منقوصا، إذ لا أخر أمامي، في موقف معين أعرفه وأريد أن اصل به إلى نتيجة معينة أعرفها، فبهذه المعايير أحدد الحكاية التي سأتخيلها وأحكيها. هذا النقصان قد يجعل الكاتب ضائعاً أمام عناصر روايته ودورها وأهميتها، ويقع بالضرورة في بئر السؤال المعتاد "لماذا نكتب؟". لأنه في هذه الحالة لا يكون هناك متلقي معروف يمكن تحديده ليس فقط كشخص، بل كشخصية أساسية لاكتمال عملية الحكي.
أما إيجاباً، فإن هذا الافتقار القارئ المتعين، يوسع دائرة الاحتمالات. وبالتالي بنفي الإجابة الحاسمة على سؤال من سيقرأ، يرتد الكاتب إلى نفسه، "ماذا سأكتب؟" وبارتداده إلى نفسه، يبحث عن متعته هو الشخصية في ممارسة عملية الكتابة. وما يصلنا من الكتابة ليس المكتوب. بل متعته لحظة كتابته، توتره أو ضياعه بين تفاصيل ما يكتبه. عندئذ ما يصلنا من الكاتب ليس العمل الأدبي. بل يصلنا الكاتب نفسه بحالاته المتباينة، ويكون المكتوب مجرد مطية لتوصيل هذه الحالات. والنتيجة هنا إنه عندما لا يكون هناك قارئ متعين. يكن هناك كاتب حاضر بشخصه في العمل الابداعي، لا بهدفه منه.
ما الذي همني في هذا؟ يهمني أن الاهداف من الكتابة قد تكون واحدة بين الكثيرين من الكتاب. لكن أن يصلني الكاتب عبر مكتوبه، فهو أمر مميز. إذ أن كل كاتب هو نفسه، ولا يشترك بذلك مع أحد.

الجمعة، 29 يناير 2010

(4)

(4)

أتذكر أنه في عمر الصبا، كانت إحدى القنوات المحلية في التلفاز تبث يومياً برنامج اسمه "حدث في مثل هذا اليوم" لمدة لا أظنها تزيد عن خمس دقائق فيها تتحرك صور على الشاشية ويقول معلق غير مرئي للمشاهدين الحدث الذي يتعلق بالصور. من منا لم يشاهد هذا البرنامج؟ هناك أيضا في الجريدة الرسمية مربع في إحدى صفحاتها اسمه "حدث في مثل هذا اليوم. عادة هناك تاريخ اليوم والحدث ومن حدث له الحدث ومكان الحدث. مثلا، 6 أكتوبر 1973، انتصرت القوات المصرية على مثيلتها الاسرائيلية في سيناء.. أليست هذه رواية؟ إنها تحمل العناصر التي قيل لنا أنها أهم عناصر الرواية. الزمان والمكان والحدث، والبطل والخصم، والصراع والنهاية. هنا توجد دراما. فلماذا لا يمكننا كتابة رواية في سطر. لماذا هذا السطر الواحد الذي فيه العناصر كلها لا يغني عن كتابة رواية حربية؟

يبدو أن ما يجعل من الرواية رواية، أولا أنها، وإن توافرت فيها كل العناصر التي يقال إنها مطلوبة، لا يمكن أن تكتب في سطر واحد. الحجم مهم. عدد الصفحات.. يا للهول. كم من الحشو الفارغ يمكن أن نملأ به صفحات ونقول إنها رواية؟ فما المعيار؟ لا العناصر المطلوبة معيار كافٍ ولا الحجم أيضا؟ ربما اجتماعهما معا، العناصر والحجم. لا اعرف. هناك شيء في عملية الروي نفسها. هناك رواة الحديث، عن فلان عن فلان.. الرواية في جزء منها قصص. أي قص للأثر. ينبغي أن يكون هناك فلان ابن فلان عن فلان.. وليس فقط الجيش المصري دفعة واحدة. ينبغي أن يتم انتسال خيط من الضفيرة الكبيرة وسرد أحداثة. ينبغي أن يكون هناك محمد مثلا، ابن فهيمة الفلاحة التي مات والدها مثلا في دنشواي، واخوها الأكبر في فلسطين، وزوجها في لا أعرف أية حرب.. ينبغي أن يكون هناك قص أثر ذلك الابن محمد الذي عاد منتصرا من أكتوبر 73. ولماذا ذهب وكيف ودع أمه وهل له حبيبة تنتظره أم أنها تطوعت في المستشفى إثر غيابه الطويل ربما تجده بين الجرحى ذات يوم وتطببه؟ وكيف كانت علاقته بأقرانه اثناء الحرب. وماذا كان يفعل هذا الفلاح في هذه الحرب؟ هل كان يحفر مثلا لوضع الألغام مثلما كان يحفر الأرض لوضع البذور؟ كيف كان يرى السماء ليلا وسلاحه في يده؟ هذه التفاصيل. هذه النميمة. هي لب الرواية. هي ما يجعلها تبدو حقيقية وكأنها حدثت بالفعل. حدثت في مثل هذا اليوم.

وبعد أن جردنا الجملة المكثفة في برنامج تليفزيوني من كثافتها، وأخرجنا منها نتفة اسمها "محمد"، ونسجنا حولها كل الخيوط اللازمة مازال يتبغي أن نجد رموزا كبيرة لمحمد ومحن صعبة. مثلا، أن يرى "مصر" الصامدة ضد من يريدونها بيع أرضها بخسا وعنوة في أمه. وان يرى ثأره لأبيه. وأن يقوم بموقف بطولي ما، يجسده هو، كمزارع، وليس أي فرد غيره من اقرانه في الكتيبة. وأن يوصله هذا الموقف إلى المستشفى، حتى يتفاجأ بحبيبته. ويكون هنا على الكاتب أن يري، هل يريد نهاية سعيدة: ينتصر الجيش ويتزوج محمد من حبيبته ويحمي أرض أمه، أم نهاية حزينة بعض الشيء، في أن يجد محمد نفسه قد حرر سيناء من عدو خارجي، لكن العدو الداخلي "الفساد" ترك امه بلا أرض، وحبيبته تتزوج بغيره لأنه ، اي محمد، فقد ساقه مثلا، في الحرب. أو لأنه بعد أن رأى الكثير من الأهوال لم يعد يستطع أن يمارس حياة طبيعية وكأن شيئا مما رآة لم يكن.أو لأن أهل حبيبته ضغطوا عليها لأن المتقدم للزواج واحد من أثرياء الحرب.
هنا، هنا فقط نكون قد وقفنا أمام رواية. أحببناها أم لا. فأن هذا لن ينفي كونها رواية. حتى وإن كانت رواية رديئة.

فماذا نريد أن نروي؟ ولماذا؟ وهل للتكنيك أهيمة درامية في عملية الروي نفسها حقاً أم أنه مجرد حلية إبداعية؟ هناك أسئلة كثيرة ينبغي ان نطرحها بصدق على أنفسنا قبل أن نشرع في كتابة الروايات. لكن في النهاية، نحن لا نطرحها، فقط إن ظهر لأذهاننا عالمٌ يلح في الظهور على الورق.

(3)

أن تقف وتشاهد العالم يمر. الناس بحركاتهم وتعبيرات وجوههم والسيارات الواقفة في الإشارات والمارقة في فوضي، والكثير من آلات التنبيه، والندلاء في المطاعم والمقاهي، والعابرين. كل شيء. الأعراس والمآتم. الممرضات في النوبات الليلة.. كل شيء. أن تقف وتشاهد العالم يمر. هذا أمر تتعود عليه منذ الصغر عندما تضعك الأم أمام التلفاز لساعات لكي تنجز هذا العمل المنزلي أو ذات بدون تدخلك الموتر لحركة أحداثها. ثم ينغلق التلفاز. وتجد نفسك بشكل تلقائي تحكي لها كل ما رأيت. بسهولة، ولأنك تشاهد العالم يمر. تشاهد. تبقى الشاهد على مرور العالم الذي لا تشارك فيه إلا بعد أن تنتهي مشاهدك. تتحول إلى راوي محترف بعد فترة. وإلى ملاحظ جيد أيضا. أعتقد أن أغلب الرواة كانوا مشاهدين محترفين. حتى وإن اضطروا للمشاركة في هذا الحدث أو ذاك داخل نطاق حيواتهم الشخصية أو حيوات الآخرين، يبقى جزء منهم خارجاً عن الفعل، يشاهد. ليروي. هناك أيضا التمرن على يد رواه محترفين أكبر سناً واقدم تاريخاً. كأن تجلس ساكنا تنصت إلى جدتك أو خالتك وهي تحكي عن أيام زمان. عندما كانت بضفيرة تصل إلى ركبتيها، وكان ابن جيران..... الخ الخ... هناك دائماً حكايات عن نوافذ مواربة، وجوه تتحجج بالقلل أو تنقية الأرز لكي تشاهد العالم من هذه النوافذ، وهناك حكايات ترويها الخالات والعمات.. هناك متعة أن يُحكى لك أن..... ومن المرور بهذه المتعة تعتقد أنك لو حكيت ما رأيته أنت نفسك ستمتع من تحكي له. هنا تجد نفسك تحكي. فقط لمن تحب. لكي تمتعه. وتكون أحيانا الصدمة أن ما رويته لو تكن استجابة الملامح التي تحكي لها كما توقعت. هنا تقف. وتشاهد مجددا. هذه المرة، تشاهد ملامح من تحكي له. وتفكر في طرق أكثر إمتاعاً في الحكي. تبحث عن التكنيك. وبالطبع، مع الوقت، عندما تكبر قليلا وتكون تعلمت الكتابة، تكتب ما تود روايته، ثم تشطب وتغير، لتصل إلى التكنيك الأكثر إمتاعا من وجهة نظرك، مستندا على ما عانيته من تجارب عدم إشباع المروي إليه بينما تروي.. هنا يخرج من ذهنك ويتجسد، القارئ الافتراضي. وتجد نفسك موكلا بإمتاعه. المتعة شيء مهم جداً أثناء الحكي. وينبغي أن يكون لها بنود تساعد على تحقيقها. قد يكون التشويق واحدا منها مثلا.. المسألة أنك مع الوقت تركز على نمط معين من القراء الافتراضيين. ثم تقول تباً. هناك أنماط عديدة منهم! وتجد نفسك في النهاية، تقرر أن تكون أنت قارؤك الافتراضي. فتكون الكاتب والقارئ. أحياناً تكون ايضا الراوي والبطل. تكون كل شيء في النهاية أنت وحدك. تضع القليل منك في هذه الشخصية أو تلك. القليل من أحداث مرت بك في هذا الموقف أو ذاك. لكنها مع ذلك ليست كتابة عن الذات. إنها كتابة لها. للذات. بغرض إمتاعها. ربما بغرض تعليمها كيفيات الاتمتاع بما جرى لها من أحداث. أن تجد مبررا لما قد مر من ألم. "سيكون ممتعا لو تمت كتابته"... أو للانتقام. "سأجعل من هذا الشخص مسخة عندما أكتبه، مثلما جعل مني مسخة أمام الناس.".أو ببساطة. "أريد أن أفهم ما حدث!"...
ولأنك تعودت أن تقف وتشاهد العالم يمر من حولك. تقف أيضا وتشاهده يمر فوقك وتحتك ومن خلالك. لا تكون من أصحاب رد الفعل الأول. تحدث لك أشياء ولا تتدخل فيها، كأنها تحدث وبينك وبينها شاشة. وكأنها لا تحدث معك أنت. بل مع شخصية ستكتشف لاحقا رد فعلها. ستكتشفه كتابه. يتحو العالم إلى فيلم كبير، ستخرجه أنت فيما بعد، على الورق.

لكن أحيانا لا يحدث الأمر هكذا. فقط تكون متعة الحكي هي كل شيء. ليس الرصد والحكي. لكن التخيل والحكي. أن تخترع قصة بأكملها. أن تنشئ وجوداً ما.. أن تكون أنت وحدك صانعه. وتنتصر في هذا الوجود لما يشبهك. لما يقف ويشاهد العالم يمر. كالجمادات أو النباتات.. أن يكون أبطالك من حجر أو عشب أو محار وطحالب. أن يكون سبت الغسيل مثلا شخصية رئيسية. لم لا؟.. ذرة من تراب تكفي لصنع حكاية هنا، ممتعة ومبتكرة. عندما تفعل ذلك، فإنك غالبا ما تعود بنفسك إلى عالمك الطفولي، حيث الحلول الكرتونية كلها متاحة، وحيث خيالك هو المحرك الأوحد لكل شيء.