(9)
كل يوم نستيقظ بعد حلم ما، أو حالة مزاجية تأتينا في النوم وتصحبنا إلى اليقظة حتى نفقدها تدريجيا مع الحركة خروجا من السرير إلى صنع الشاي او القهوة وفتح النافذة. كل يوم نفتح النافذة فنجد نهارا ما بانتظارنا. نفتح أعيننا ونفتح النافذة. ونرى اناسا يعبرون. في الذات مثلما في الشارع. ونقول لأنفسنا، ياه، كل هؤلاء البشر. يا ترى ماذا يحملون من حكاياتهم ليرووه لنا لو استطاعوا. نتجسس قليلا على الشارع مثلما نتجسس على ذاكرتنا. حبال الغسيل وما تحويه من ملابس تعبر عن حيوات سكان هذه الشقة أو تلك. الكراكيب في البالكونات. أحيانا بعض النباتات. الواجهات تعبر كثيرا عن قاطني الداخل. أو لنقل تعبر بالضرورة عن ما يريدوننا أن نراه فيهم، تماما كالملابس التي نرتديها للخروج إلى العمل. لكن أحيانا تشي هذه الواجهات بقد ما لا يريد قاطني دواخلها أن يفضحوه. غيارات أطفال بالت على نفسها أثناء النوم، ملاءات سرير الزوجية المطرز .. لا أعرف. أحيانا، شيء من الفوضي. شيء مما لا نتمكن من كتمانه برغم الرغبة في ذلك. مثل انتفاخ الجيوب تحت أعيننا بعد ليلة من الأرق. أشياء ملحة تجعلنا لا نتمكن من ضبط المظهر.. أحيانا يكون ما كتبناه ملحا لدرجة حتى أثناء اجراءات نشره لا نهتم بكيف سيكون الغلاف.
شيء من الفوضى. نعم. ذلك مهم جدا. فهم أن كل شيء يسير كما ينبغي، فلماذا كنا سنكتب؟ شيء من الفوضى ليحفز الحاجة إلى نظام. ليحفز الخيال لخلق عالم له نظامه الخاص داخل هذه الفوضي. شيء من الفوضي لتحفيز الرغبة في خلق نظام خاص. نظام بالتالي يحتفي بفكرة الخصوصية. نلعب فيه بشيء من الحرية. على الأقل في بداية اللعب، قبل أن نرسي قوانين اللعبة.
في بداية الكتابة تكون كل الاحتمالات موجودة ومتاحة. لكل كاتب. على قدر سعته. هنا لحظة نشوى وتيه. كل شيء ممكن. لأن كل شيء مازال في حيز الإمكانية لا الفعل. لكن ما إن نخط بالقلم إلا وقد بدأنا. ولكي نكون قد بدأنا، نكون قد اختما بداية لما سيأتي لاحقا. اي نكون قد أقصينا كل احتمالات البدايات الأخرى. في الأفلام رومانتيكية القديمة، كنا نجد البطل الذي يريد أن يكتب رسالة لحبيبته، يبدأ الكتابة ثم يمزق الورقة ثم يبدأ من جديد بداية أخرى تكرارا ويمزق الأوراق مرارا.. إلى أن يهتدي للبداية المطلوبة. وهي بالضرورة التي تقف اكثر في الموقف التوفيقي بين ما يعبر عن مشاعرة ما يؤثر في محبوته التأثير المرجو. وعندما نبدأ رواية. عندما نقرر هذه البداية ونقصي كل الاحتمالات الأخرى، فإننا بالضرورة نظن أن هذه هي البداية التي ستجعل استرسال التالي حتى نهاية الرواية يعبر عنا ويؤثر أيضا في محبوبنا القارئ لكي يقنعه بهذا الحب الذي اسمه الرواية.
لكن تماما مثلما في الأفلام الرومانتيكية القديمة، تحدث أشياء. سوء تفاهم أو خطأ في التوقيت أيا ما يكون قد يجعل الرسالة لا تصل إلى المحبوبة. أو قد تصل لكن في التوقيت غير المناسب. هناك كتاب أذكياء. يلحون على التأكد من إصدار رواياتهم مثلا قبل معرض الكتاب، وأن يكون لها قراءة وحفل توقيع أثناء المعرض. إنهم كتاب متفانون. يرغبون بشدة في توصيل رسالتهم لقارئها. ويطرقون كل السبل لذلك، صحافة، إعلام ، مناسبات، مسابقات، جوائز.. وهناك أيضا كتاب رومانتيكيون في علاقتهم هذه، يعتقدون أن الحب خالد. وجذوته يمكن أن تدفئ الحبيب في أي مكان وزمان. فيعاملون رواياتهم بهذه الطريقة. لا يهتمون بميعاد صدور رواياتهم ولا بصنع ضجة إعلامية حولها ولا يسعون ورا المسابقات ولا الجوائز. إنهم الكتاب الخجولون. إنهم أبناء لحظة كتابة ملفوفة في ورقة وموضوعة في زجاجة وملقى بها في البحر.
لا أعرف لماذا كتبت ذلك. وقد كان كل ما أردتُ كتابته، هو أنني عندما كنت صغيرة، كنت أنتهز لحظات الفوضى، أو لأوضح واقول الليالي التي لم تكن فيها أمي لتتمكن من قراءة حكاية لي قبل النوم، كنت أستغل هذه اللحظات الاستثنائية العزيزة لأحكي لنفسي. كانت كل حكاياتي تبدأ من الشارع. كانت هناك بنت، وكانت تمشي في الشارع، ثم حدث كذا وكذا.. وتبدأ المغامرات تتلاحق حتى أخلد للنوم. وكأن هذه البنت لم يكن لها بيت.
في الكتابة شيء من هذه الرغبة في المغامرة. في نسف البيت بكل نظمه التربوية والتعليمية، والهيكل التراتبي لمقامات من فيه. هناك توق لأن نلقي بأنفسنا في الشارع. في أن يمزقنا الجموع. في أن يأكل كل منهم قطعو منا. لكي نبقى فيهم، في خلاياهم وأنسجتهم وذاكراتهم للأبد. هذه هي إحدى الدوافع الغريزية للكتابة: تخليد الاسم. حتى وإن كان قربانه تمزيق الذات. هناك كتاب أصيبت حياتهم البيتية بدمار شامل لأنهم أصروا حتى النهاية إنهم كتاب قبل كل شيء. من الصعب على الكثيرين الحفاظ على البيت والشارع في نسيج واحد. فمنذ الصغر تعودنا أن هناك أشياء تحدث في البيت لا ينبغي ان تقال في الشارع. وأن ملابس البيت تختلف عن ملابس الشارع. هذا الفصل الحاكم بين الخاص والعام. قد التبس عن الكثيرين لدرجة أنهم توهموا أن عليهم الاختيار بين الحياة البيتية والحياة الإبداعية. لقد التبس عند الكثيرين، فما بالك عند الكثيرات. الكاتبات اللاتي ينبغي أن يطبخن وينظفن البيت ويربين الأطفال ويكتبن الروايات. داخل نفس البيت. هنا ينبغي كسر وهم الطفولة عن بداية الحكاية عند النزول إلى الشارع. هنا، ينبغي تضفير كل شيء. كل الخصلات بكل ألوانها في ضفيرة واحدة. وإلا أظنها ستكون إما كتابة سطحية لا روح فيها، إما بيت واهٍ يتصدع مع أول ريح تمر. نحن كاتبات الروايات، المتزوجات صاحبات الأطفال، ينبغي أن نفكر في أنفسنا باعتبارنا جزءا من رواية اسمها حياتنا الشخصية المموطوطة بما فيها من زوج وأطفال وعمل وأعباء منزلية وتربوية. والتي لسنا بالتالي فيها وحدنا، ما خيالنا وذكرياتنا وقراءاتنا ونتف الشارع التي نحصدها قبل الدخول إلى البيت. ولكي نستمر في الكتابة، بنفس الحيوية والطموح والإقبال، يجب أن نكافئ أنفسنا كل يوم على كوننا كذلك. كاتبات برغم كل شيء. كاتبات مع كل هذه الأشياء. وينبغي أن نعرف أننا بطلات. نجاهد في كل لحظة من اللحظات التي نحياها، بين المطبخ والمنشر والفروض المدرسية لأبنائنا والإنصات لأزواجنا وانشغال أذهاننا بإدارة بيت بأكمله. نحن مناضلات بحق. وينبغي أن نكافئ أنفسنا على ذلك بأن نكتب، كيفما نحب. بهذه الجسارة وأحيانا بهذا الحمق، الذي جعلنا نقرر أن نتحمل فوق عبء انشطاراتنا الذاتية، عبء عائلة بانشطارات كل من فيها، ووسياق مكاني يحدث فيه تراكم زماني، سياق اسمه البيت.
لم يكن هذا ما ايضا ما أردتُ كتابته. لكنه أمر ملح ففرض نفسه. وأنا أحيي بكل الاحترام، كل كاتبة متزوجة وتعول، قررت أن تدمج الأدوار كلها في ذات واحدة. ببساطة لأن هذا ليس سهلا بالمرة. إنه الاختيار الأصعب.
سأعطيكم هنا مثلا. علمت أطفالي معاني الألوان في إشارات المرور. حتىأنهم بدأوا يلاحظونها عندما نخرج في نزهة. وبدأوا بذلك أيضا ملاحطة أن نظام المرور عندنا لا يمشي دائما على ما تقوله إشارات المرور، فهل أقول لهم، مع أول نزول للشارع واعين إشارات المرور، أن النظرية شيء والتطبيق شيء آخر؟ أم اقول لهم إن نظام المرور عندنا فاشل في أغلب الإحيان ولا أحد يتبع القواعد؟ أم اقول لهم إن هذا الفلان المهم يمر بهذا الشارع لذا كل شيء في الإشارة سيكون تحت أمره الآن إلى أن ينتهي مروره؟ الخ الخ.. ماذا أقول لأبناء الرابعة من العمر كأم كاتبة، واعية؟ مهما قلت سيدرك راداراتهم القوية في هذا العمر أن النظرية شيء والتطبيق يتوقف على المطبقين لا على اتباع النظرية. وسأنشيء فيهم بوعي مني، وبضغط الشارع الذي لا يمكنني التحكم فيه من أجل أبنائي، ازدواجية الكائن، التي تنعكس فيما بعد على المثقف بشكل عام والكاتب بشكل خاص. موقف كهذا الذي حدث مع أطفالي لا يمكن أن يحدث ويؤثر بهذه الدرجة إلا في كاتبة هي بالضرورة أم.
هنا والآن فقط، أفهم لماذا كانت كل حكاياتي لنفسي قبل النوم تبدأ بالنزول إلى الشارع. حيث النظريات الواهية التي أتعلمها في البيت لا جدوى منها، وحيث المغامرة مع الغير متوقع من الأشياء التي قد تحدث في الشارع يفتح أفق الامكانية لكل الاحتمالات، تماما كبداية رواية لم نقرر لها بعد كيف سيكون خط سيرها. لكن في الحكاية، النزول للشارع آمن، لأنه حتى الاحتمالات الأكثر خطورة، هي احتمالات من نسج الخيال، ذلك الخيال، الذي في البداية، وقبل النزول إلى الشارع، تربى في البيت.
كل يوم نستيقظ بعد حلم ما، أو حالة مزاجية تأتينا في النوم وتصحبنا إلى اليقظة حتى نفقدها تدريجيا مع الحركة خروجا من السرير إلى صنع الشاي او القهوة وفتح النافذة. كل يوم نفتح النافذة فنجد نهارا ما بانتظارنا. نفتح أعيننا ونفتح النافذة. ونرى اناسا يعبرون. في الذات مثلما في الشارع. ونقول لأنفسنا، ياه، كل هؤلاء البشر. يا ترى ماذا يحملون من حكاياتهم ليرووه لنا لو استطاعوا. نتجسس قليلا على الشارع مثلما نتجسس على ذاكرتنا. حبال الغسيل وما تحويه من ملابس تعبر عن حيوات سكان هذه الشقة أو تلك. الكراكيب في البالكونات. أحيانا بعض النباتات. الواجهات تعبر كثيرا عن قاطني الداخل. أو لنقل تعبر بالضرورة عن ما يريدوننا أن نراه فيهم، تماما كالملابس التي نرتديها للخروج إلى العمل. لكن أحيانا تشي هذه الواجهات بقد ما لا يريد قاطني دواخلها أن يفضحوه. غيارات أطفال بالت على نفسها أثناء النوم، ملاءات سرير الزوجية المطرز .. لا أعرف. أحيانا، شيء من الفوضي. شيء مما لا نتمكن من كتمانه برغم الرغبة في ذلك. مثل انتفاخ الجيوب تحت أعيننا بعد ليلة من الأرق. أشياء ملحة تجعلنا لا نتمكن من ضبط المظهر.. أحيانا يكون ما كتبناه ملحا لدرجة حتى أثناء اجراءات نشره لا نهتم بكيف سيكون الغلاف.
شيء من الفوضى. نعم. ذلك مهم جدا. فهم أن كل شيء يسير كما ينبغي، فلماذا كنا سنكتب؟ شيء من الفوضى ليحفز الحاجة إلى نظام. ليحفز الخيال لخلق عالم له نظامه الخاص داخل هذه الفوضي. شيء من الفوضي لتحفيز الرغبة في خلق نظام خاص. نظام بالتالي يحتفي بفكرة الخصوصية. نلعب فيه بشيء من الحرية. على الأقل في بداية اللعب، قبل أن نرسي قوانين اللعبة.
في بداية الكتابة تكون كل الاحتمالات موجودة ومتاحة. لكل كاتب. على قدر سعته. هنا لحظة نشوى وتيه. كل شيء ممكن. لأن كل شيء مازال في حيز الإمكانية لا الفعل. لكن ما إن نخط بالقلم إلا وقد بدأنا. ولكي نكون قد بدأنا، نكون قد اختما بداية لما سيأتي لاحقا. اي نكون قد أقصينا كل احتمالات البدايات الأخرى. في الأفلام رومانتيكية القديمة، كنا نجد البطل الذي يريد أن يكتب رسالة لحبيبته، يبدأ الكتابة ثم يمزق الورقة ثم يبدأ من جديد بداية أخرى تكرارا ويمزق الأوراق مرارا.. إلى أن يهتدي للبداية المطلوبة. وهي بالضرورة التي تقف اكثر في الموقف التوفيقي بين ما يعبر عن مشاعرة ما يؤثر في محبوته التأثير المرجو. وعندما نبدأ رواية. عندما نقرر هذه البداية ونقصي كل الاحتمالات الأخرى، فإننا بالضرورة نظن أن هذه هي البداية التي ستجعل استرسال التالي حتى نهاية الرواية يعبر عنا ويؤثر أيضا في محبوبنا القارئ لكي يقنعه بهذا الحب الذي اسمه الرواية.
لكن تماما مثلما في الأفلام الرومانتيكية القديمة، تحدث أشياء. سوء تفاهم أو خطأ في التوقيت أيا ما يكون قد يجعل الرسالة لا تصل إلى المحبوبة. أو قد تصل لكن في التوقيت غير المناسب. هناك كتاب أذكياء. يلحون على التأكد من إصدار رواياتهم مثلا قبل معرض الكتاب، وأن يكون لها قراءة وحفل توقيع أثناء المعرض. إنهم كتاب متفانون. يرغبون بشدة في توصيل رسالتهم لقارئها. ويطرقون كل السبل لذلك، صحافة، إعلام ، مناسبات، مسابقات، جوائز.. وهناك أيضا كتاب رومانتيكيون في علاقتهم هذه، يعتقدون أن الحب خالد. وجذوته يمكن أن تدفئ الحبيب في أي مكان وزمان. فيعاملون رواياتهم بهذه الطريقة. لا يهتمون بميعاد صدور رواياتهم ولا بصنع ضجة إعلامية حولها ولا يسعون ورا المسابقات ولا الجوائز. إنهم الكتاب الخجولون. إنهم أبناء لحظة كتابة ملفوفة في ورقة وموضوعة في زجاجة وملقى بها في البحر.
لا أعرف لماذا كتبت ذلك. وقد كان كل ما أردتُ كتابته، هو أنني عندما كنت صغيرة، كنت أنتهز لحظات الفوضى، أو لأوضح واقول الليالي التي لم تكن فيها أمي لتتمكن من قراءة حكاية لي قبل النوم، كنت أستغل هذه اللحظات الاستثنائية العزيزة لأحكي لنفسي. كانت كل حكاياتي تبدأ من الشارع. كانت هناك بنت، وكانت تمشي في الشارع، ثم حدث كذا وكذا.. وتبدأ المغامرات تتلاحق حتى أخلد للنوم. وكأن هذه البنت لم يكن لها بيت.
في الكتابة شيء من هذه الرغبة في المغامرة. في نسف البيت بكل نظمه التربوية والتعليمية، والهيكل التراتبي لمقامات من فيه. هناك توق لأن نلقي بأنفسنا في الشارع. في أن يمزقنا الجموع. في أن يأكل كل منهم قطعو منا. لكي نبقى فيهم، في خلاياهم وأنسجتهم وذاكراتهم للأبد. هذه هي إحدى الدوافع الغريزية للكتابة: تخليد الاسم. حتى وإن كان قربانه تمزيق الذات. هناك كتاب أصيبت حياتهم البيتية بدمار شامل لأنهم أصروا حتى النهاية إنهم كتاب قبل كل شيء. من الصعب على الكثيرين الحفاظ على البيت والشارع في نسيج واحد. فمنذ الصغر تعودنا أن هناك أشياء تحدث في البيت لا ينبغي ان تقال في الشارع. وأن ملابس البيت تختلف عن ملابس الشارع. هذا الفصل الحاكم بين الخاص والعام. قد التبس عن الكثيرين لدرجة أنهم توهموا أن عليهم الاختيار بين الحياة البيتية والحياة الإبداعية. لقد التبس عند الكثيرين، فما بالك عند الكثيرات. الكاتبات اللاتي ينبغي أن يطبخن وينظفن البيت ويربين الأطفال ويكتبن الروايات. داخل نفس البيت. هنا ينبغي كسر وهم الطفولة عن بداية الحكاية عند النزول إلى الشارع. هنا، ينبغي تضفير كل شيء. كل الخصلات بكل ألوانها في ضفيرة واحدة. وإلا أظنها ستكون إما كتابة سطحية لا روح فيها، إما بيت واهٍ يتصدع مع أول ريح تمر. نحن كاتبات الروايات، المتزوجات صاحبات الأطفال، ينبغي أن نفكر في أنفسنا باعتبارنا جزءا من رواية اسمها حياتنا الشخصية المموطوطة بما فيها من زوج وأطفال وعمل وأعباء منزلية وتربوية. والتي لسنا بالتالي فيها وحدنا، ما خيالنا وذكرياتنا وقراءاتنا ونتف الشارع التي نحصدها قبل الدخول إلى البيت. ولكي نستمر في الكتابة، بنفس الحيوية والطموح والإقبال، يجب أن نكافئ أنفسنا كل يوم على كوننا كذلك. كاتبات برغم كل شيء. كاتبات مع كل هذه الأشياء. وينبغي أن نعرف أننا بطلات. نجاهد في كل لحظة من اللحظات التي نحياها، بين المطبخ والمنشر والفروض المدرسية لأبنائنا والإنصات لأزواجنا وانشغال أذهاننا بإدارة بيت بأكمله. نحن مناضلات بحق. وينبغي أن نكافئ أنفسنا على ذلك بأن نكتب، كيفما نحب. بهذه الجسارة وأحيانا بهذا الحمق، الذي جعلنا نقرر أن نتحمل فوق عبء انشطاراتنا الذاتية، عبء عائلة بانشطارات كل من فيها، ووسياق مكاني يحدث فيه تراكم زماني، سياق اسمه البيت.
لم يكن هذا ما ايضا ما أردتُ كتابته. لكنه أمر ملح ففرض نفسه. وأنا أحيي بكل الاحترام، كل كاتبة متزوجة وتعول، قررت أن تدمج الأدوار كلها في ذات واحدة. ببساطة لأن هذا ليس سهلا بالمرة. إنه الاختيار الأصعب.
سأعطيكم هنا مثلا. علمت أطفالي معاني الألوان في إشارات المرور. حتىأنهم بدأوا يلاحظونها عندما نخرج في نزهة. وبدأوا بذلك أيضا ملاحطة أن نظام المرور عندنا لا يمشي دائما على ما تقوله إشارات المرور، فهل أقول لهم، مع أول نزول للشارع واعين إشارات المرور، أن النظرية شيء والتطبيق شيء آخر؟ أم اقول لهم إن نظام المرور عندنا فاشل في أغلب الإحيان ولا أحد يتبع القواعد؟ أم اقول لهم إن هذا الفلان المهم يمر بهذا الشارع لذا كل شيء في الإشارة سيكون تحت أمره الآن إلى أن ينتهي مروره؟ الخ الخ.. ماذا أقول لأبناء الرابعة من العمر كأم كاتبة، واعية؟ مهما قلت سيدرك راداراتهم القوية في هذا العمر أن النظرية شيء والتطبيق يتوقف على المطبقين لا على اتباع النظرية. وسأنشيء فيهم بوعي مني، وبضغط الشارع الذي لا يمكنني التحكم فيه من أجل أبنائي، ازدواجية الكائن، التي تنعكس فيما بعد على المثقف بشكل عام والكاتب بشكل خاص. موقف كهذا الذي حدث مع أطفالي لا يمكن أن يحدث ويؤثر بهذه الدرجة إلا في كاتبة هي بالضرورة أم.
هنا والآن فقط، أفهم لماذا كانت كل حكاياتي لنفسي قبل النوم تبدأ بالنزول إلى الشارع. حيث النظريات الواهية التي أتعلمها في البيت لا جدوى منها، وحيث المغامرة مع الغير متوقع من الأشياء التي قد تحدث في الشارع يفتح أفق الامكانية لكل الاحتمالات، تماما كبداية رواية لم نقرر لها بعد كيف سيكون خط سيرها. لكن في الحكاية، النزول للشارع آمن، لأنه حتى الاحتمالات الأكثر خطورة، هي احتمالات من نسج الخيال، ذلك الخيال، الذي في البداية، وقبل النزول إلى الشارع، تربى في البيت.