السبت، 30 يناير 2010
الرواية كيف (5)
(5)
استيقظتُ اليوم على صوت ابني ذي الأربع سنوات من العمر يسأل أخته التوأم إن كانت انتهت من استخدام المرحاض لأنه يحتاجه. كانا في الحمّام. تخيلتها جالسة وهو واقف يقاوم خروج اي شيء من مؤخرته في غير محله. صوته كان فيه شيء من الاتجداء وحث أخته على الانتهاء. وصوتها كان فيه شيء من التشفي وهي تقول إنها لم تنتهي بعد. بدا لي من صوتها إنها انتهت بالفعل، لكنها تمثل كونها ممسكة وتحتاج لوقت أطول على المرحاض.
أنا هنا أمام عناصر حدث مكتملة. الشخصيات. المكان والزمان. الموقف الذي يربط الشخصيات. طبيعية كل شخصية وصفاتها من صوتها وكلامها وحركتها دتخل الموقف. وعقدة درامية تحث على السؤال حول نهاية الموقف كيف ستكون.
أنا هنا إذا أمام موقف درامي. وليس امام رواية. وما حدث بعد ذلك جعلني أعيد النظر في أمور كثيرة. فقط كان رد فعل ابني تجاه ابنتي التي قد تكون ممسكة فعلا أو تدعي الأمساك مؤثرا جدا. اقترح الولد أن يحكي لها حكاية لكي تهدأ أعصابها وتتمكن من الإخراج. أخذ كتاب من كتبهم الغير مدرسية. كتاب عن الديناصورات يحبه هو جدا. كتاب. وليس قصة. ومن صور الديناصورات بدأ ينسج لها حكاية، وبدأت هي تشارك في إنتاجها للحكاية أيضا.
في الصفحة صور لديناصور واحد مرة عن قرب شديد ومرة عن قرب فقط ومرة عن بعد. الابن قال إنه كان ياما كان ديناصور يقف في البعيد وكان جوعاناً فبدأ يقترب مرة فأخرى من فريسته التي هي أنا لأنه أمامي في الصورة. دخل الحمام وقال أنت صغير جدا ولا تكفي لإفطاري. سآكل أختك معك. وعندما دخلنا أنا (يقول الابن مازال) وأنتِ (متوجها بالحديث لأخته) وجدنا بطن الديناصور واسعة جدا جدا من الداخل. أوسع من الحمام. وسألنا بعضنا كيف كان الديناصور كله في الحمام وبطنه وحدها أوسع من الحمام كله...
أما تدخل الإبنة التوأم فكان كالآتي: أولاً أنكرت تماما الحكاية الأولىٍ وقالت إن الأمر ليس كذلك. إنهم الديناصور بابا والديناصورة ماما والديناصور النونو وهم يقفون على الورقة لأنهم ليس لهم أرض يقفوا عليها. وكان المكان مظلم لديهم حتى انفتح الكتاب فرأوا النور، ووجدوا أنفسهم أمام ولد وبنت فنظروا إليهما وسألاهما إن كان يمكن ان يبقيا عندهما لأنهم ليس لديهم بيت سوى هذا الكتاب الذي ليس فيه أرض ولا حجرة ولا حتى طعام...
في النهاية تمكنت عملية الحكي من انهاء حالة امساك ابنتي وتمكن ابني بالتالي من أخذ دورة على المرحاض. وانتهم العملية الصباحية بنجاح. وأنا مندهشة مستمتعة بكلتي الحكايتين، بل وبالدافع الذي حكيا من أجله. كان الحكي هنا ضرورة لكلا الطفلين. ضرورة بايولوجية!
بالإضافة، فإنني عندما أنظر إلى الحدث الأساسي، وإلى الموقف الدرامي بداخله الذي استدعي عملية الحكي، ثم إلى الحكايتين الداخليتين في باطن الحدث الأساسي، ثم نهاية هذا الحدث، هذه النهاية السعيدة لبطليه الطفلين، أرى أنني أمام نسيج مثل نسيج الف ليلة وليلة. حكاية اساسية داخلها مجموعة من الحكايات الفرعية المتلاحقة لسبب يخدم بالأساس النهاية المرجوة من الحكاية الأساسية.
إننا نقوم بذلك كل يوم. حكاية من داخل حكاية من خارج حكاية. ولأسباب تخدم الحدث الأساسي الذي فيه الموقف المراد الخروج منه، عبر الحكايات. نفعل ذلك شفاهة طوال الوقت. لكن عندا يتحول الشفاهي إلى مكتوب تكون لدينا متعة مستقبلية في انتظارنا، متعة أن نقرأه مرة أخرى. أن يقرأه غيرنا ممن لم يشهده معنا أيضا، والتشويق ليس فقط في داخل الحكاية وموجه للقارئ وحده، بل التشويق يكون ايضا من المكتوب تجاه الكاتب الذي يفكر، من سيقرأ المكتوب بعدي. عندما نحكي الحكاية فهي من فلان إلى فلان، أو عن فلان ابن فلان، نعرف مصدرها، هذه الجدة أو تلك الخالة، ونعرف منتهاها، هذا الحفيد أو هذه البنت، وفي النهاية قد لا تخرج الحكاية عن سلسال الأسرة الواحدة. جيلا بعد جيل. لكن عندما نكتب الحكايات، تبقى متعة الشفاهي مكتوبة، ويكون المجهول هو القارئ. من فلان إلى.... لا أحد يعرف. ويؤثر عدم المعرفة هذا سلبا وإيجابا في المكتوب. سلباً، لأن الهدف من الحكي صار منقوصا، إذ لا أخر أمامي، في موقف معين أعرفه وأريد أن اصل به إلى نتيجة معينة أعرفها، فبهذه المعايير أحدد الحكاية التي سأتخيلها وأحكيها. هذا النقصان قد يجعل الكاتب ضائعاً أمام عناصر روايته ودورها وأهميتها، ويقع بالضرورة في بئر السؤال المعتاد "لماذا نكتب؟". لأنه في هذه الحالة لا يكون هناك متلقي معروف يمكن تحديده ليس فقط كشخص، بل كشخصية أساسية لاكتمال عملية الحكي.
أما إيجاباً، فإن هذا الافتقار القارئ المتعين، يوسع دائرة الاحتمالات. وبالتالي بنفي الإجابة الحاسمة على سؤال من سيقرأ، يرتد الكاتب إلى نفسه، "ماذا سأكتب؟" وبارتداده إلى نفسه، يبحث عن متعته هو الشخصية في ممارسة عملية الكتابة. وما يصلنا من الكتابة ليس المكتوب. بل متعته لحظة كتابته، توتره أو ضياعه بين تفاصيل ما يكتبه. عندئذ ما يصلنا من الكاتب ليس العمل الأدبي. بل يصلنا الكاتب نفسه بحالاته المتباينة، ويكون المكتوب مجرد مطية لتوصيل هذه الحالات. والنتيجة هنا إنه عندما لا يكون هناك قارئ متعين. يكن هناك كاتب حاضر بشخصه في العمل الابداعي، لا بهدفه منه.
ما الذي همني في هذا؟ يهمني أن الاهداف من الكتابة قد تكون واحدة بين الكثيرين من الكتاب. لكن أن يصلني الكاتب عبر مكتوبه، فهو أمر مميز. إذ أن كل كاتب هو نفسه، ولا يشترك بذلك مع أحد.
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق