الجمعة، 29 يناير 2010

(4)

(4)

أتذكر أنه في عمر الصبا، كانت إحدى القنوات المحلية في التلفاز تبث يومياً برنامج اسمه "حدث في مثل هذا اليوم" لمدة لا أظنها تزيد عن خمس دقائق فيها تتحرك صور على الشاشية ويقول معلق غير مرئي للمشاهدين الحدث الذي يتعلق بالصور. من منا لم يشاهد هذا البرنامج؟ هناك أيضا في الجريدة الرسمية مربع في إحدى صفحاتها اسمه "حدث في مثل هذا اليوم. عادة هناك تاريخ اليوم والحدث ومن حدث له الحدث ومكان الحدث. مثلا، 6 أكتوبر 1973، انتصرت القوات المصرية على مثيلتها الاسرائيلية في سيناء.. أليست هذه رواية؟ إنها تحمل العناصر التي قيل لنا أنها أهم عناصر الرواية. الزمان والمكان والحدث، والبطل والخصم، والصراع والنهاية. هنا توجد دراما. فلماذا لا يمكننا كتابة رواية في سطر. لماذا هذا السطر الواحد الذي فيه العناصر كلها لا يغني عن كتابة رواية حربية؟

يبدو أن ما يجعل من الرواية رواية، أولا أنها، وإن توافرت فيها كل العناصر التي يقال إنها مطلوبة، لا يمكن أن تكتب في سطر واحد. الحجم مهم. عدد الصفحات.. يا للهول. كم من الحشو الفارغ يمكن أن نملأ به صفحات ونقول إنها رواية؟ فما المعيار؟ لا العناصر المطلوبة معيار كافٍ ولا الحجم أيضا؟ ربما اجتماعهما معا، العناصر والحجم. لا اعرف. هناك شيء في عملية الروي نفسها. هناك رواة الحديث، عن فلان عن فلان.. الرواية في جزء منها قصص. أي قص للأثر. ينبغي أن يكون هناك فلان ابن فلان عن فلان.. وليس فقط الجيش المصري دفعة واحدة. ينبغي أن يتم انتسال خيط من الضفيرة الكبيرة وسرد أحداثة. ينبغي أن يكون هناك محمد مثلا، ابن فهيمة الفلاحة التي مات والدها مثلا في دنشواي، واخوها الأكبر في فلسطين، وزوجها في لا أعرف أية حرب.. ينبغي أن يكون هناك قص أثر ذلك الابن محمد الذي عاد منتصرا من أكتوبر 73. ولماذا ذهب وكيف ودع أمه وهل له حبيبة تنتظره أم أنها تطوعت في المستشفى إثر غيابه الطويل ربما تجده بين الجرحى ذات يوم وتطببه؟ وكيف كانت علاقته بأقرانه اثناء الحرب. وماذا كان يفعل هذا الفلاح في هذه الحرب؟ هل كان يحفر مثلا لوضع الألغام مثلما كان يحفر الأرض لوضع البذور؟ كيف كان يرى السماء ليلا وسلاحه في يده؟ هذه التفاصيل. هذه النميمة. هي لب الرواية. هي ما يجعلها تبدو حقيقية وكأنها حدثت بالفعل. حدثت في مثل هذا اليوم.

وبعد أن جردنا الجملة المكثفة في برنامج تليفزيوني من كثافتها، وأخرجنا منها نتفة اسمها "محمد"، ونسجنا حولها كل الخيوط اللازمة مازال يتبغي أن نجد رموزا كبيرة لمحمد ومحن صعبة. مثلا، أن يرى "مصر" الصامدة ضد من يريدونها بيع أرضها بخسا وعنوة في أمه. وان يرى ثأره لأبيه. وأن يقوم بموقف بطولي ما، يجسده هو، كمزارع، وليس أي فرد غيره من اقرانه في الكتيبة. وأن يوصله هذا الموقف إلى المستشفى، حتى يتفاجأ بحبيبته. ويكون هنا على الكاتب أن يري، هل يريد نهاية سعيدة: ينتصر الجيش ويتزوج محمد من حبيبته ويحمي أرض أمه، أم نهاية حزينة بعض الشيء، في أن يجد محمد نفسه قد حرر سيناء من عدو خارجي، لكن العدو الداخلي "الفساد" ترك امه بلا أرض، وحبيبته تتزوج بغيره لأنه ، اي محمد، فقد ساقه مثلا، في الحرب. أو لأنه بعد أن رأى الكثير من الأهوال لم يعد يستطع أن يمارس حياة طبيعية وكأن شيئا مما رآة لم يكن.أو لأن أهل حبيبته ضغطوا عليها لأن المتقدم للزواج واحد من أثرياء الحرب.
هنا، هنا فقط نكون قد وقفنا أمام رواية. أحببناها أم لا. فأن هذا لن ينفي كونها رواية. حتى وإن كانت رواية رديئة.

فماذا نريد أن نروي؟ ولماذا؟ وهل للتكنيك أهيمة درامية في عملية الروي نفسها حقاً أم أنه مجرد حلية إبداعية؟ هناك أسئلة كثيرة ينبغي ان نطرحها بصدق على أنفسنا قبل أن نشرع في كتابة الروايات. لكن في النهاية، نحن لا نطرحها، فقط إن ظهر لأذهاننا عالمٌ يلح في الظهور على الورق.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق