الجمعة، 29 يناير 2010


(3)

أن تقف وتشاهد العالم يمر. الناس بحركاتهم وتعبيرات وجوههم والسيارات الواقفة في الإشارات والمارقة في فوضي، والكثير من آلات التنبيه، والندلاء في المطاعم والمقاهي، والعابرين. كل شيء. الأعراس والمآتم. الممرضات في النوبات الليلة.. كل شيء. أن تقف وتشاهد العالم يمر. هذا أمر تتعود عليه منذ الصغر عندما تضعك الأم أمام التلفاز لساعات لكي تنجز هذا العمل المنزلي أو ذات بدون تدخلك الموتر لحركة أحداثها. ثم ينغلق التلفاز. وتجد نفسك بشكل تلقائي تحكي لها كل ما رأيت. بسهولة، ولأنك تشاهد العالم يمر. تشاهد. تبقى الشاهد على مرور العالم الذي لا تشارك فيه إلا بعد أن تنتهي مشاهدك. تتحول إلى راوي محترف بعد فترة. وإلى ملاحظ جيد أيضا. أعتقد أن أغلب الرواة كانوا مشاهدين محترفين. حتى وإن اضطروا للمشاركة في هذا الحدث أو ذاك داخل نطاق حيواتهم الشخصية أو حيوات الآخرين، يبقى جزء منهم خارجاً عن الفعل، يشاهد. ليروي. هناك أيضا التمرن على يد رواه محترفين أكبر سناً واقدم تاريخاً. كأن تجلس ساكنا تنصت إلى جدتك أو خالتك وهي تحكي عن أيام زمان. عندما كانت بضفيرة تصل إلى ركبتيها، وكان ابن جيران..... الخ الخ... هناك دائماً حكايات عن نوافذ مواربة، وجوه تتحجج بالقلل أو تنقية الأرز لكي تشاهد العالم من هذه النوافذ، وهناك حكايات ترويها الخالات والعمات.. هناك متعة أن يُحكى لك أن..... ومن المرور بهذه المتعة تعتقد أنك لو حكيت ما رأيته أنت نفسك ستمتع من تحكي له. هنا تجد نفسك تحكي. فقط لمن تحب. لكي تمتعه. وتكون أحيانا الصدمة أن ما رويته لو تكن استجابة الملامح التي تحكي لها كما توقعت. هنا تقف. وتشاهد مجددا. هذه المرة، تشاهد ملامح من تحكي له. وتفكر في طرق أكثر إمتاعاً في الحكي. تبحث عن التكنيك. وبالطبع، مع الوقت، عندما تكبر قليلا وتكون تعلمت الكتابة، تكتب ما تود روايته، ثم تشطب وتغير، لتصل إلى التكنيك الأكثر إمتاعا من وجهة نظرك، مستندا على ما عانيته من تجارب عدم إشباع المروي إليه بينما تروي.. هنا يخرج من ذهنك ويتجسد، القارئ الافتراضي. وتجد نفسك موكلا بإمتاعه. المتعة شيء مهم جداً أثناء الحكي. وينبغي أن يكون لها بنود تساعد على تحقيقها. قد يكون التشويق واحدا منها مثلا.. المسألة أنك مع الوقت تركز على نمط معين من القراء الافتراضيين. ثم تقول تباً. هناك أنماط عديدة منهم! وتجد نفسك في النهاية، تقرر أن تكون أنت قارؤك الافتراضي. فتكون الكاتب والقارئ. أحياناً تكون ايضا الراوي والبطل. تكون كل شيء في النهاية أنت وحدك. تضع القليل منك في هذه الشخصية أو تلك. القليل من أحداث مرت بك في هذا الموقف أو ذاك. لكنها مع ذلك ليست كتابة عن الذات. إنها كتابة لها. للذات. بغرض إمتاعها. ربما بغرض تعليمها كيفيات الاتمتاع بما جرى لها من أحداث. أن تجد مبررا لما قد مر من ألم. "سيكون ممتعا لو تمت كتابته"... أو للانتقام. "سأجعل من هذا الشخص مسخة عندما أكتبه، مثلما جعل مني مسخة أمام الناس.".أو ببساطة. "أريد أن أفهم ما حدث!"...
ولأنك تعودت أن تقف وتشاهد العالم يمر من حولك. تقف أيضا وتشاهده يمر فوقك وتحتك ومن خلالك. لا تكون من أصحاب رد الفعل الأول. تحدث لك أشياء ولا تتدخل فيها، كأنها تحدث وبينك وبينها شاشة. وكأنها لا تحدث معك أنت. بل مع شخصية ستكتشف لاحقا رد فعلها. ستكتشفه كتابه. يتحو العالم إلى فيلم كبير، ستخرجه أنت فيما بعد، على الورق.

لكن أحيانا لا يحدث الأمر هكذا. فقط تكون متعة الحكي هي كل شيء. ليس الرصد والحكي. لكن التخيل والحكي. أن تخترع قصة بأكملها. أن تنشئ وجوداً ما.. أن تكون أنت وحدك صانعه. وتنتصر في هذا الوجود لما يشبهك. لما يقف ويشاهد العالم يمر. كالجمادات أو النباتات.. أن يكون أبطالك من حجر أو عشب أو محار وطحالب. أن يكون سبت الغسيل مثلا شخصية رئيسية. لم لا؟.. ذرة من تراب تكفي لصنع حكاية هنا، ممتعة ومبتكرة. عندما تفعل ذلك، فإنك غالبا ما تعود بنفسك إلى عالمك الطفولي، حيث الحلول الكرتونية كلها متاحة، وحيث خيالك هو المحرك الأوحد لكل شيء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق