(7)
والآن أسأل نفسي، لماذا هذا الاهتمام المحموم بالرواية في اللحظة ذاتها التي أريد فيها أن أضغط على زر الحذف وأنهي الوجود الوحيد المتبقي الرقمياً لرواياتي غير المكتملة على هذا الجهاز؟ لماذا الآن شهرياري الداخلي يريد أن يقطع الشك باليقين، وشهرزادي تماطل وتكتب في مسألة الرواية؟ إجابة الوهلة الأولى: ببساطة لأنني إنسانة. لست ملاكا بما يكفي لعدم قتل الأوراق، ولست شيطانا بما يكفي لنسف آخر دليل على أني كتبت. آخر أمل، لا أعرف فيما... لستُ شيطانا بما يكفي لأقطع شعرة معاوية. ولست ملاكا بما يكفي لأبقيها مرخية. أنا إنسانة. شددتُ الشعرة وتركتها مشدودة. وأعرف أن الشعرة ذاتها تتألم. وتتمنى أن زيح عنها قبضتي أو أن أقطها لينتهي الألم. ذلك لأنها شعرة حية. كاللاتي في راسي.
أنظر إلى نفسي. لي عينان وأنف وفم وأسنان. لي يدان وأذنان وقدمان. اشبه كل الناس. بداخلي أمعاء وقلب ورئة وأعصاب وشرايين. مثل كل الناس. ومثلهم أيضا، تعرف هذه الأشياء التي لي كيف تعمل من تلقاء نفسها دون اي تدخل مني. وأتساءل. عندما أقص أظافري، كيف حدثت أصلا، وماذا سيحدث اللمقصوص بعد وضعه في سلة القمامة. كيف ستكون رحلته. المقصوص من الأظافر كيف يعبر عن رضاه أو سخطه حيال رحلته معي، ملتصقا بأصابعي، ورحلته بعدي، مقصوصا منها.. هذه الغصة التي أشعر بها بينما أتسال بالفعل. وبمنتى الجدية. بدون سخرية وبكثير من الاهتمام.. هل هذا أيضا ما يشعر به ويتساءل عنه كاتب الرواية بعد طبعها؟
ابنتي عندما تكبر وتستقل بحياتها بعيدا عن البيت يمكنها أن تقابلني أحيانا وحكي لي قصاصات من حياتها. لكن اظفري المقصوص لن يتمكن من ذلك بعد أن يخرج من حياتي. لهذا أن أريد الآن أصفع كل من يقول إن أعماله الأدبية كأبنائه. لا. إنهم ليسوا كابنائي. إنكم كإظفري. قطعة مني. كانت حية معي. وليست حياة أخرى، حدثت من خلالي. هذا الظفر الذي أقصه الآن وأقصه بشكل دوري واعتيادي جدا، كان يحكي لي عن نفسه بزرقته عن ألم انحشاره في وربة الباب، وكان يحكي لي عني، ببقعة بيضاء صغيرة يظهرها لي كعلامة عن احياجي للفيتامين، كان يعبأ بي، ويتأثر بحالي، هذا الاظفر كان لينحني ويتشقق ضعفا لأجلي إذا لم أهتم بتناول منتجات الالبان. إنه إظفري كيف يشب ليخرج من لحمي، كيف أمكنه، وكيف أمكنني أنا أن أقصه هكذا؟!! وهكذا تنتهي علاقتنا. حياته تصير غيباً بالنسبة لي. هذه هي علاقتي بما أكتبه.ٍ عندما أقصه من لحمي وأتركه للنشر، فهو لن يتمكن من العودة إلي مرة أخرى. لن يحكي لي عن حياته بعد النشر. لن يحكي لي عن حياتي بعد نشره. وإن جاء قارئ لحدثني عما كتبت، فتكون هذه رؤية القارئ. وليست رؤية المكتوب. الذي أحبه. وأنفصل عنه نهائيا. لأنه هكذا، ينبغي أن ننفصل نهائيا في الوقت المناسب، عما نحب، حتى وإن كان جزءا منا. وهذه يؤلمني. مزقت الأوراق وحرقتها في لحظات ثائرة على هذا الوضع الذي لا فرار منه. ثرتُ لنا هي وأنا، عليها. كبطل في أحدى المسرحيات اليونانية. البطل الثوري الذي يثور على القدر ويسخر من إرادة الآلهة. والذي بالضرورة يكون هو، هو وحده، من تختاره الآلهة لينجز مهمتها. لأنه متمرد بما فيه الكفاية كإله خالق، وأحمق بما فيه الكفاية، كمخلوق.
لكن هناك أمور ممتعة أيضاً في كون الواحد إنسانا. مثلا أنه يمكنه تأمل خلايا جلده. واعتبار كل خلية منها بدورانها وحركاتها حول مركزها مجموعة شمسية كاملة. إذا نظرتُ لكل خلايا جسمي الداخلية والخارجية بهذه الطريقة، فكم مجموعة شمسية تكون؟ وكم من الأراضين عليها؟ وكم من الحيوات على تلك الأراضين هي روايات أخرى تكتب نفسها افتراضيا، حتى وأنا نائمة، وتترك لأصابعي وحدها، ذات الأظافر المقصوصة، أن تخرج تلك الحيوات وتؤرخ لها في وجود إسمه أنا، يمكنه أن يمسك بالأقلام والورق، أو ينقر على لوحة المفاتيح أشياء طلسمية اصطلحوا عليها بالحروف والكلمات، واخترعوا لها معانٍ ودلالات. التأريخ لما لا يؤرَخ له تاريخيا. هذا وحده سبب أكثر من كاف لكتابة رواية ولتلمس إظفر ومحبته حتى وإن كنت سأضطر فيما بعد أن اقطعه.
السبت، 30 يناير 2010
الرواية كيف (6)
(6)
من هو الكاتب؟
سؤال فجرته المقال السابق. وضح لي في النهاية أنني ألهث وراء المكتوب لأرى الكاتب. من الكاتب؟ لا يهمني المكتوب بقدر ما يعطيني علامات إرشادية في طريقي لمعرفة الكاتب.
الكاتب هو نفسه شخصية درامية في مسلسل الحياة هذه الذي لا ينتهي. الكاتب علامة. كود. دور. لهذا فالكاتب شخصية وليس شخصاُ عندما نرى الحياة رواية من أجزاء. ما يكتبه الكاتب هو شهادته في هذه الرواية. هو الدليل على أنه مر بهذه الرواية التي اسمها الحياة. المكتوب إذا ليس له أهمية إذا ما كان مفتاح للإرشاد على كاتبه. هناك روايات مملة نتركها من الصفحات الأولى ولا نعود لها أبداً لأنها ببساطة وكمفتاح يدل على كاتبها، ليست مفتاحا جيد الصنع. لم يصقله الكاتب بعد. لم يكن الكاتب بعد قد عرف في نفسه جوهرها، لم يكن قد استدل أولا على نفسه لكي يدلنا مكتوبه عليها. فإذا كان الله فعلا قد خلقنا على صورته. فعلى الرواية أن تكون صورة للكاتب. الرواية كلها، بكل شخصياتها واحداثها وتفاصيلها ومحنتها وكل حرف ومسافة ونقطة فيها. كلها بتكاملها صورة للكاتب. لما بلوره في نفسه قبل وفترة كتابتها. في كل شخصية من الشخصيات نتفة من الكاتب، كذلك في كل جملة حوار، وفي كل وصف لمشهد.
هناك خدعة نقوم بها حيال أنفسنا نحن الكتاب. إننا نزعم أننا نكتب للخارج. نكتب لنفهم العالم، لنغير العالم، لنعبر عن العالم.. أسباب واهية تجهل من العالم هو المرصود من قبل الكاتب وهو الهدف المراد الوصول إليه. هذه الخدعة نقوم بها أحياناً لا شعوريا. مثلما ينظر طفل في المرآة لأول مرة ويقول لأمه لقد وجدتُ طفلاً. ويصبح لمدة أيام هذا الطفل الذي في المرآة هو شغله الشاغل. إنه لا يعرف أن هذا العالم او هذا الطفل، سمه ما تشاء، هو صورة لشخصه هو. الطفل لا يعرف. لكن الطفل الذي بداخل كل كاتب يعرف تماماً لكنه يتلاعب ويهزأ بيقين ذلك ال"كبير" الذي ندعي أننا نكونه، ويغيب المعرفه عنه، ليرده إلى لحظة المرآة الأولى. ربما يتذكر أو يتعلم.
والدليل على ذلك هو إننا نقول أيضا أحياناً نحن الكتاب، أن العالم لا يفهمنا، أن العالم يقف منا موقف العدو. إنه يعاندنا أو يتجاهلنا، أو ببساطة يعاكسنا المسار. هنا يخرج الطفل الذي بداخلنا لسانه لنا "ككبار نتكلم عن العالم" بنفس الطريقة التي كنا بها صغارا نبرهن لأمهاتنا إن الذي في المرآة ليس نحن، لأننا عندما نحرك يدنا اليمنى، يحرك الطفل في المرآة يده اليسرى، لا يحرك اليد التي نحركها! إنه يقف منا موقف النقيض، موقف التضاد. إنه يعاكسنا.
هكذا فإننا صغارا او كبارا، نرفض النظر إلى أنفسنا باعتبارها كذلك، أنفسنا. نطمح إلى الوصول لها أو فهمها أو تغييرها، لكن باعتبارها ليست نحن. نراها تعاكسنا وتتضاد معنا باعتبارها ليست نحن. في كل الاحوال، نرفض في أن نرى في أنفسنا شيئاً سوى أنها آخر بعيد منفصل عنا نفعل له أشياء ويفعل لنا اشياء. وهكذا نصطلح لاشعورا لهذه الأنا اسم "العالم" فعندما نكتب لنمتع القارئ، فنحن بالضرورة نريد أن نمتع أنفسنا. وعندما يلفظنا العالم فإننا بالضرورة قد لفظنا أنفسنا واعتبرناها لا تستحق الاعتراف. فالعالم هو أنا. هذا هو الانعكاس في المرآة. وإن لم أكن أرى ذلك اولا باعتباره قاعدة أولية إلزامية فأنا بالضرورة سأكتب رواية رديئة. أو في أحسن الأحوال، سأكتب رواية لا يميزها شيء أصلي فيها عن سلسلة مكرورة من الروايات التابعة للمقاييس المتعارف عليها روائياً فحسب. وأنا ككاتبة لست هنا لأعيد خلق نفسي على شاكلة معايير الرواية، لكن لأجعل من رواية مخلوقا على صورة التي وصلتُ إليها عن نفسي منذ الميلاد إلى اللحظة التي خططتُ فيها أول حرف في العمل الروائي.
من هو الكاتب؟
سؤال فجرته المقال السابق. وضح لي في النهاية أنني ألهث وراء المكتوب لأرى الكاتب. من الكاتب؟ لا يهمني المكتوب بقدر ما يعطيني علامات إرشادية في طريقي لمعرفة الكاتب.
الكاتب هو نفسه شخصية درامية في مسلسل الحياة هذه الذي لا ينتهي. الكاتب علامة. كود. دور. لهذا فالكاتب شخصية وليس شخصاُ عندما نرى الحياة رواية من أجزاء. ما يكتبه الكاتب هو شهادته في هذه الرواية. هو الدليل على أنه مر بهذه الرواية التي اسمها الحياة. المكتوب إذا ليس له أهمية إذا ما كان مفتاح للإرشاد على كاتبه. هناك روايات مملة نتركها من الصفحات الأولى ولا نعود لها أبداً لأنها ببساطة وكمفتاح يدل على كاتبها، ليست مفتاحا جيد الصنع. لم يصقله الكاتب بعد. لم يكن الكاتب بعد قد عرف في نفسه جوهرها، لم يكن قد استدل أولا على نفسه لكي يدلنا مكتوبه عليها. فإذا كان الله فعلا قد خلقنا على صورته. فعلى الرواية أن تكون صورة للكاتب. الرواية كلها، بكل شخصياتها واحداثها وتفاصيلها ومحنتها وكل حرف ومسافة ونقطة فيها. كلها بتكاملها صورة للكاتب. لما بلوره في نفسه قبل وفترة كتابتها. في كل شخصية من الشخصيات نتفة من الكاتب، كذلك في كل جملة حوار، وفي كل وصف لمشهد.
هناك خدعة نقوم بها حيال أنفسنا نحن الكتاب. إننا نزعم أننا نكتب للخارج. نكتب لنفهم العالم، لنغير العالم، لنعبر عن العالم.. أسباب واهية تجهل من العالم هو المرصود من قبل الكاتب وهو الهدف المراد الوصول إليه. هذه الخدعة نقوم بها أحياناً لا شعوريا. مثلما ينظر طفل في المرآة لأول مرة ويقول لأمه لقد وجدتُ طفلاً. ويصبح لمدة أيام هذا الطفل الذي في المرآة هو شغله الشاغل. إنه لا يعرف أن هذا العالم او هذا الطفل، سمه ما تشاء، هو صورة لشخصه هو. الطفل لا يعرف. لكن الطفل الذي بداخل كل كاتب يعرف تماماً لكنه يتلاعب ويهزأ بيقين ذلك ال"كبير" الذي ندعي أننا نكونه، ويغيب المعرفه عنه، ليرده إلى لحظة المرآة الأولى. ربما يتذكر أو يتعلم.
والدليل على ذلك هو إننا نقول أيضا أحياناً نحن الكتاب، أن العالم لا يفهمنا، أن العالم يقف منا موقف العدو. إنه يعاندنا أو يتجاهلنا، أو ببساطة يعاكسنا المسار. هنا يخرج الطفل الذي بداخلنا لسانه لنا "ككبار نتكلم عن العالم" بنفس الطريقة التي كنا بها صغارا نبرهن لأمهاتنا إن الذي في المرآة ليس نحن، لأننا عندما نحرك يدنا اليمنى، يحرك الطفل في المرآة يده اليسرى، لا يحرك اليد التي نحركها! إنه يقف منا موقف النقيض، موقف التضاد. إنه يعاكسنا.
هكذا فإننا صغارا او كبارا، نرفض النظر إلى أنفسنا باعتبارها كذلك، أنفسنا. نطمح إلى الوصول لها أو فهمها أو تغييرها، لكن باعتبارها ليست نحن. نراها تعاكسنا وتتضاد معنا باعتبارها ليست نحن. في كل الاحوال، نرفض في أن نرى في أنفسنا شيئاً سوى أنها آخر بعيد منفصل عنا نفعل له أشياء ويفعل لنا اشياء. وهكذا نصطلح لاشعورا لهذه الأنا اسم "العالم" فعندما نكتب لنمتع القارئ، فنحن بالضرورة نريد أن نمتع أنفسنا. وعندما يلفظنا العالم فإننا بالضرورة قد لفظنا أنفسنا واعتبرناها لا تستحق الاعتراف. فالعالم هو أنا. هذا هو الانعكاس في المرآة. وإن لم أكن أرى ذلك اولا باعتباره قاعدة أولية إلزامية فأنا بالضرورة سأكتب رواية رديئة. أو في أحسن الأحوال، سأكتب رواية لا يميزها شيء أصلي فيها عن سلسلة مكرورة من الروايات التابعة للمقاييس المتعارف عليها روائياً فحسب. وأنا ككاتبة لست هنا لأعيد خلق نفسي على شاكلة معايير الرواية، لكن لأجعل من رواية مخلوقا على صورة التي وصلتُ إليها عن نفسي منذ الميلاد إلى اللحظة التي خططتُ فيها أول حرف في العمل الروائي.
الرواية كيف (5)
(5)
استيقظتُ اليوم على صوت ابني ذي الأربع سنوات من العمر يسأل أخته التوأم إن كانت انتهت من استخدام المرحاض لأنه يحتاجه. كانا في الحمّام. تخيلتها جالسة وهو واقف يقاوم خروج اي شيء من مؤخرته في غير محله. صوته كان فيه شيء من الاتجداء وحث أخته على الانتهاء. وصوتها كان فيه شيء من التشفي وهي تقول إنها لم تنتهي بعد. بدا لي من صوتها إنها انتهت بالفعل، لكنها تمثل كونها ممسكة وتحتاج لوقت أطول على المرحاض.
أنا هنا أمام عناصر حدث مكتملة. الشخصيات. المكان والزمان. الموقف الذي يربط الشخصيات. طبيعية كل شخصية وصفاتها من صوتها وكلامها وحركتها دتخل الموقف. وعقدة درامية تحث على السؤال حول نهاية الموقف كيف ستكون.
أنا هنا إذا أمام موقف درامي. وليس امام رواية. وما حدث بعد ذلك جعلني أعيد النظر في أمور كثيرة. فقط كان رد فعل ابني تجاه ابنتي التي قد تكون ممسكة فعلا أو تدعي الأمساك مؤثرا جدا. اقترح الولد أن يحكي لها حكاية لكي تهدأ أعصابها وتتمكن من الإخراج. أخذ كتاب من كتبهم الغير مدرسية. كتاب عن الديناصورات يحبه هو جدا. كتاب. وليس قصة. ومن صور الديناصورات بدأ ينسج لها حكاية، وبدأت هي تشارك في إنتاجها للحكاية أيضا.
في الصفحة صور لديناصور واحد مرة عن قرب شديد ومرة عن قرب فقط ومرة عن بعد. الابن قال إنه كان ياما كان ديناصور يقف في البعيد وكان جوعاناً فبدأ يقترب مرة فأخرى من فريسته التي هي أنا لأنه أمامي في الصورة. دخل الحمام وقال أنت صغير جدا ولا تكفي لإفطاري. سآكل أختك معك. وعندما دخلنا أنا (يقول الابن مازال) وأنتِ (متوجها بالحديث لأخته) وجدنا بطن الديناصور واسعة جدا جدا من الداخل. أوسع من الحمام. وسألنا بعضنا كيف كان الديناصور كله في الحمام وبطنه وحدها أوسع من الحمام كله...
أما تدخل الإبنة التوأم فكان كالآتي: أولاً أنكرت تماما الحكاية الأولىٍ وقالت إن الأمر ليس كذلك. إنهم الديناصور بابا والديناصورة ماما والديناصور النونو وهم يقفون على الورقة لأنهم ليس لهم أرض يقفوا عليها. وكان المكان مظلم لديهم حتى انفتح الكتاب فرأوا النور، ووجدوا أنفسهم أمام ولد وبنت فنظروا إليهما وسألاهما إن كان يمكن ان يبقيا عندهما لأنهم ليس لديهم بيت سوى هذا الكتاب الذي ليس فيه أرض ولا حجرة ولا حتى طعام...
في النهاية تمكنت عملية الحكي من انهاء حالة امساك ابنتي وتمكن ابني بالتالي من أخذ دورة على المرحاض. وانتهم العملية الصباحية بنجاح. وأنا مندهشة مستمتعة بكلتي الحكايتين، بل وبالدافع الذي حكيا من أجله. كان الحكي هنا ضرورة لكلا الطفلين. ضرورة بايولوجية!
بالإضافة، فإنني عندما أنظر إلى الحدث الأساسي، وإلى الموقف الدرامي بداخله الذي استدعي عملية الحكي، ثم إلى الحكايتين الداخليتين في باطن الحدث الأساسي، ثم نهاية هذا الحدث، هذه النهاية السعيدة لبطليه الطفلين، أرى أنني أمام نسيج مثل نسيج الف ليلة وليلة. حكاية اساسية داخلها مجموعة من الحكايات الفرعية المتلاحقة لسبب يخدم بالأساس النهاية المرجوة من الحكاية الأساسية.
إننا نقوم بذلك كل يوم. حكاية من داخل حكاية من خارج حكاية. ولأسباب تخدم الحدث الأساسي الذي فيه الموقف المراد الخروج منه، عبر الحكايات. نفعل ذلك شفاهة طوال الوقت. لكن عندا يتحول الشفاهي إلى مكتوب تكون لدينا متعة مستقبلية في انتظارنا، متعة أن نقرأه مرة أخرى. أن يقرأه غيرنا ممن لم يشهده معنا أيضا، والتشويق ليس فقط في داخل الحكاية وموجه للقارئ وحده، بل التشويق يكون ايضا من المكتوب تجاه الكاتب الذي يفكر، من سيقرأ المكتوب بعدي. عندما نحكي الحكاية فهي من فلان إلى فلان، أو عن فلان ابن فلان، نعرف مصدرها، هذه الجدة أو تلك الخالة، ونعرف منتهاها، هذا الحفيد أو هذه البنت، وفي النهاية قد لا تخرج الحكاية عن سلسال الأسرة الواحدة. جيلا بعد جيل. لكن عندما نكتب الحكايات، تبقى متعة الشفاهي مكتوبة، ويكون المجهول هو القارئ. من فلان إلى.... لا أحد يعرف. ويؤثر عدم المعرفة هذا سلبا وإيجابا في المكتوب. سلباً، لأن الهدف من الحكي صار منقوصا، إذ لا أخر أمامي، في موقف معين أعرفه وأريد أن اصل به إلى نتيجة معينة أعرفها، فبهذه المعايير أحدد الحكاية التي سأتخيلها وأحكيها. هذا النقصان قد يجعل الكاتب ضائعاً أمام عناصر روايته ودورها وأهميتها، ويقع بالضرورة في بئر السؤال المعتاد "لماذا نكتب؟". لأنه في هذه الحالة لا يكون هناك متلقي معروف يمكن تحديده ليس فقط كشخص، بل كشخصية أساسية لاكتمال عملية الحكي.
أما إيجاباً، فإن هذا الافتقار القارئ المتعين، يوسع دائرة الاحتمالات. وبالتالي بنفي الإجابة الحاسمة على سؤال من سيقرأ، يرتد الكاتب إلى نفسه، "ماذا سأكتب؟" وبارتداده إلى نفسه، يبحث عن متعته هو الشخصية في ممارسة عملية الكتابة. وما يصلنا من الكتابة ليس المكتوب. بل متعته لحظة كتابته، توتره أو ضياعه بين تفاصيل ما يكتبه. عندئذ ما يصلنا من الكاتب ليس العمل الأدبي. بل يصلنا الكاتب نفسه بحالاته المتباينة، ويكون المكتوب مجرد مطية لتوصيل هذه الحالات. والنتيجة هنا إنه عندما لا يكون هناك قارئ متعين. يكن هناك كاتب حاضر بشخصه في العمل الابداعي، لا بهدفه منه.
ما الذي همني في هذا؟ يهمني أن الاهداف من الكتابة قد تكون واحدة بين الكثيرين من الكتاب. لكن أن يصلني الكاتب عبر مكتوبه، فهو أمر مميز. إذ أن كل كاتب هو نفسه، ولا يشترك بذلك مع أحد.
الجمعة، 29 يناير 2010
(4)
(4)
أتذكر أنه في عمر الصبا، كانت إحدى القنوات المحلية في التلفاز تبث يومياً برنامج اسمه "حدث في مثل هذا اليوم" لمدة لا أظنها تزيد عن خمس دقائق فيها تتحرك صور على الشاشية ويقول معلق غير مرئي للمشاهدين الحدث الذي يتعلق بالصور. من منا لم يشاهد هذا البرنامج؟ هناك أيضا في الجريدة الرسمية مربع في إحدى صفحاتها اسمه "حدث في مثل هذا اليوم. عادة هناك تاريخ اليوم والحدث ومن حدث له الحدث ومكان الحدث. مثلا، 6 أكتوبر 1973، انتصرت القوات المصرية على مثيلتها الاسرائيلية في سيناء.. أليست هذه رواية؟ إنها تحمل العناصر التي قيل لنا أنها أهم عناصر الرواية. الزمان والمكان والحدث، والبطل والخصم، والصراع والنهاية. هنا توجد دراما. فلماذا لا يمكننا كتابة رواية في سطر. لماذا هذا السطر الواحد الذي فيه العناصر كلها لا يغني عن كتابة رواية حربية؟
يبدو أن ما يجعل من الرواية رواية، أولا أنها، وإن توافرت فيها كل العناصر التي يقال إنها مطلوبة، لا يمكن أن تكتب في سطر واحد. الحجم مهم. عدد الصفحات.. يا للهول. كم من الحشو الفارغ يمكن أن نملأ به صفحات ونقول إنها رواية؟ فما المعيار؟ لا العناصر المطلوبة معيار كافٍ ولا الحجم أيضا؟ ربما اجتماعهما معا، العناصر والحجم. لا اعرف. هناك شيء في عملية الروي نفسها. هناك رواة الحديث، عن فلان عن فلان.. الرواية في جزء منها قصص. أي قص للأثر. ينبغي أن يكون هناك فلان ابن فلان عن فلان.. وليس فقط الجيش المصري دفعة واحدة. ينبغي أن يتم انتسال خيط من الضفيرة الكبيرة وسرد أحداثة. ينبغي أن يكون هناك محمد مثلا، ابن فهيمة الفلاحة التي مات والدها مثلا في دنشواي، واخوها الأكبر في فلسطين، وزوجها في لا أعرف أية حرب.. ينبغي أن يكون هناك قص أثر ذلك الابن محمد الذي عاد منتصرا من أكتوبر 73. ولماذا ذهب وكيف ودع أمه وهل له حبيبة تنتظره أم أنها تطوعت في المستشفى إثر غيابه الطويل ربما تجده بين الجرحى ذات يوم وتطببه؟ وكيف كانت علاقته بأقرانه اثناء الحرب. وماذا كان يفعل هذا الفلاح في هذه الحرب؟ هل كان يحفر مثلا لوضع الألغام مثلما كان يحفر الأرض لوضع البذور؟ كيف كان يرى السماء ليلا وسلاحه في يده؟ هذه التفاصيل. هذه النميمة. هي لب الرواية. هي ما يجعلها تبدو حقيقية وكأنها حدثت بالفعل. حدثت في مثل هذا اليوم.
وبعد أن جردنا الجملة المكثفة في برنامج تليفزيوني من كثافتها، وأخرجنا منها نتفة اسمها "محمد"، ونسجنا حولها كل الخيوط اللازمة مازال يتبغي أن نجد رموزا كبيرة لمحمد ومحن صعبة. مثلا، أن يرى "مصر" الصامدة ضد من يريدونها بيع أرضها بخسا وعنوة في أمه. وان يرى ثأره لأبيه. وأن يقوم بموقف بطولي ما، يجسده هو، كمزارع، وليس أي فرد غيره من اقرانه في الكتيبة. وأن يوصله هذا الموقف إلى المستشفى، حتى يتفاجأ بحبيبته. ويكون هنا على الكاتب أن يري، هل يريد نهاية سعيدة: ينتصر الجيش ويتزوج محمد من حبيبته ويحمي أرض أمه، أم نهاية حزينة بعض الشيء، في أن يجد محمد نفسه قد حرر سيناء من عدو خارجي، لكن العدو الداخلي "الفساد" ترك امه بلا أرض، وحبيبته تتزوج بغيره لأنه ، اي محمد، فقد ساقه مثلا، في الحرب. أو لأنه بعد أن رأى الكثير من الأهوال لم يعد يستطع أن يمارس حياة طبيعية وكأن شيئا مما رآة لم يكن.أو لأن أهل حبيبته ضغطوا عليها لأن المتقدم للزواج واحد من أثرياء الحرب.
هنا، هنا فقط نكون قد وقفنا أمام رواية. أحببناها أم لا. فأن هذا لن ينفي كونها رواية. حتى وإن كانت رواية رديئة.
فماذا نريد أن نروي؟ ولماذا؟ وهل للتكنيك أهيمة درامية في عملية الروي نفسها حقاً أم أنه مجرد حلية إبداعية؟ هناك أسئلة كثيرة ينبغي ان نطرحها بصدق على أنفسنا قبل أن نشرع في كتابة الروايات. لكن في النهاية، نحن لا نطرحها، فقط إن ظهر لأذهاننا عالمٌ يلح في الظهور على الورق.
أتذكر أنه في عمر الصبا، كانت إحدى القنوات المحلية في التلفاز تبث يومياً برنامج اسمه "حدث في مثل هذا اليوم" لمدة لا أظنها تزيد عن خمس دقائق فيها تتحرك صور على الشاشية ويقول معلق غير مرئي للمشاهدين الحدث الذي يتعلق بالصور. من منا لم يشاهد هذا البرنامج؟ هناك أيضا في الجريدة الرسمية مربع في إحدى صفحاتها اسمه "حدث في مثل هذا اليوم. عادة هناك تاريخ اليوم والحدث ومن حدث له الحدث ومكان الحدث. مثلا، 6 أكتوبر 1973، انتصرت القوات المصرية على مثيلتها الاسرائيلية في سيناء.. أليست هذه رواية؟ إنها تحمل العناصر التي قيل لنا أنها أهم عناصر الرواية. الزمان والمكان والحدث، والبطل والخصم، والصراع والنهاية. هنا توجد دراما. فلماذا لا يمكننا كتابة رواية في سطر. لماذا هذا السطر الواحد الذي فيه العناصر كلها لا يغني عن كتابة رواية حربية؟
يبدو أن ما يجعل من الرواية رواية، أولا أنها، وإن توافرت فيها كل العناصر التي يقال إنها مطلوبة، لا يمكن أن تكتب في سطر واحد. الحجم مهم. عدد الصفحات.. يا للهول. كم من الحشو الفارغ يمكن أن نملأ به صفحات ونقول إنها رواية؟ فما المعيار؟ لا العناصر المطلوبة معيار كافٍ ولا الحجم أيضا؟ ربما اجتماعهما معا، العناصر والحجم. لا اعرف. هناك شيء في عملية الروي نفسها. هناك رواة الحديث، عن فلان عن فلان.. الرواية في جزء منها قصص. أي قص للأثر. ينبغي أن يكون هناك فلان ابن فلان عن فلان.. وليس فقط الجيش المصري دفعة واحدة. ينبغي أن يتم انتسال خيط من الضفيرة الكبيرة وسرد أحداثة. ينبغي أن يكون هناك محمد مثلا، ابن فهيمة الفلاحة التي مات والدها مثلا في دنشواي، واخوها الأكبر في فلسطين، وزوجها في لا أعرف أية حرب.. ينبغي أن يكون هناك قص أثر ذلك الابن محمد الذي عاد منتصرا من أكتوبر 73. ولماذا ذهب وكيف ودع أمه وهل له حبيبة تنتظره أم أنها تطوعت في المستشفى إثر غيابه الطويل ربما تجده بين الجرحى ذات يوم وتطببه؟ وكيف كانت علاقته بأقرانه اثناء الحرب. وماذا كان يفعل هذا الفلاح في هذه الحرب؟ هل كان يحفر مثلا لوضع الألغام مثلما كان يحفر الأرض لوضع البذور؟ كيف كان يرى السماء ليلا وسلاحه في يده؟ هذه التفاصيل. هذه النميمة. هي لب الرواية. هي ما يجعلها تبدو حقيقية وكأنها حدثت بالفعل. حدثت في مثل هذا اليوم.
وبعد أن جردنا الجملة المكثفة في برنامج تليفزيوني من كثافتها، وأخرجنا منها نتفة اسمها "محمد"، ونسجنا حولها كل الخيوط اللازمة مازال يتبغي أن نجد رموزا كبيرة لمحمد ومحن صعبة. مثلا، أن يرى "مصر" الصامدة ضد من يريدونها بيع أرضها بخسا وعنوة في أمه. وان يرى ثأره لأبيه. وأن يقوم بموقف بطولي ما، يجسده هو، كمزارع، وليس أي فرد غيره من اقرانه في الكتيبة. وأن يوصله هذا الموقف إلى المستشفى، حتى يتفاجأ بحبيبته. ويكون هنا على الكاتب أن يري، هل يريد نهاية سعيدة: ينتصر الجيش ويتزوج محمد من حبيبته ويحمي أرض أمه، أم نهاية حزينة بعض الشيء، في أن يجد محمد نفسه قد حرر سيناء من عدو خارجي، لكن العدو الداخلي "الفساد" ترك امه بلا أرض، وحبيبته تتزوج بغيره لأنه ، اي محمد، فقد ساقه مثلا، في الحرب. أو لأنه بعد أن رأى الكثير من الأهوال لم يعد يستطع أن يمارس حياة طبيعية وكأن شيئا مما رآة لم يكن.أو لأن أهل حبيبته ضغطوا عليها لأن المتقدم للزواج واحد من أثرياء الحرب.
هنا، هنا فقط نكون قد وقفنا أمام رواية. أحببناها أم لا. فأن هذا لن ينفي كونها رواية. حتى وإن كانت رواية رديئة.
فماذا نريد أن نروي؟ ولماذا؟ وهل للتكنيك أهيمة درامية في عملية الروي نفسها حقاً أم أنه مجرد حلية إبداعية؟ هناك أسئلة كثيرة ينبغي ان نطرحها بصدق على أنفسنا قبل أن نشرع في كتابة الروايات. لكن في النهاية، نحن لا نطرحها، فقط إن ظهر لأذهاننا عالمٌ يلح في الظهور على الورق.
(3)
أن تقف وتشاهد العالم يمر. الناس بحركاتهم وتعبيرات وجوههم والسيارات الواقفة في الإشارات والمارقة في فوضي، والكثير من آلات التنبيه، والندلاء في المطاعم والمقاهي، والعابرين. كل شيء. الأعراس والمآتم. الممرضات في النوبات الليلة.. كل شيء. أن تقف وتشاهد العالم يمر. هذا أمر تتعود عليه منذ الصغر عندما تضعك الأم أمام التلفاز لساعات لكي تنجز هذا العمل المنزلي أو ذات بدون تدخلك الموتر لحركة أحداثها. ثم ينغلق التلفاز. وتجد نفسك بشكل تلقائي تحكي لها كل ما رأيت. بسهولة، ولأنك تشاهد العالم يمر. تشاهد. تبقى الشاهد على مرور العالم الذي لا تشارك فيه إلا بعد أن تنتهي مشاهدك. تتحول إلى راوي محترف بعد فترة. وإلى ملاحظ جيد أيضا. أعتقد أن أغلب الرواة كانوا مشاهدين محترفين. حتى وإن اضطروا للمشاركة في هذا الحدث أو ذاك داخل نطاق حيواتهم الشخصية أو حيوات الآخرين، يبقى جزء منهم خارجاً عن الفعل، يشاهد. ليروي. هناك أيضا التمرن على يد رواه محترفين أكبر سناً واقدم تاريخاً. كأن تجلس ساكنا تنصت إلى جدتك أو خالتك وهي تحكي عن أيام زمان. عندما كانت بضفيرة تصل إلى ركبتيها، وكان ابن جيران..... الخ الخ... هناك دائماً حكايات عن نوافذ مواربة، وجوه تتحجج بالقلل أو تنقية الأرز لكي تشاهد العالم من هذه النوافذ، وهناك حكايات ترويها الخالات والعمات.. هناك متعة أن يُحكى لك أن..... ومن المرور بهذه المتعة تعتقد أنك لو حكيت ما رأيته أنت نفسك ستمتع من تحكي له. هنا تجد نفسك تحكي. فقط لمن تحب. لكي تمتعه. وتكون أحيانا الصدمة أن ما رويته لو تكن استجابة الملامح التي تحكي لها كما توقعت. هنا تقف. وتشاهد مجددا. هذه المرة، تشاهد ملامح من تحكي له. وتفكر في طرق أكثر إمتاعاً في الحكي. تبحث عن التكنيك. وبالطبع، مع الوقت، عندما تكبر قليلا وتكون تعلمت الكتابة، تكتب ما تود روايته، ثم تشطب وتغير، لتصل إلى التكنيك الأكثر إمتاعا من وجهة نظرك، مستندا على ما عانيته من تجارب عدم إشباع المروي إليه بينما تروي.. هنا يخرج من ذهنك ويتجسد، القارئ الافتراضي. وتجد نفسك موكلا بإمتاعه. المتعة شيء مهم جداً أثناء الحكي. وينبغي أن يكون لها بنود تساعد على تحقيقها. قد يكون التشويق واحدا منها مثلا.. المسألة أنك مع الوقت تركز على نمط معين من القراء الافتراضيين. ثم تقول تباً. هناك أنماط عديدة منهم! وتجد نفسك في النهاية، تقرر أن تكون أنت قارؤك الافتراضي. فتكون الكاتب والقارئ. أحياناً تكون ايضا الراوي والبطل. تكون كل شيء في النهاية أنت وحدك. تضع القليل منك في هذه الشخصية أو تلك. القليل من أحداث مرت بك في هذا الموقف أو ذاك. لكنها مع ذلك ليست كتابة عن الذات. إنها كتابة لها. للذات. بغرض إمتاعها. ربما بغرض تعليمها كيفيات الاتمتاع بما جرى لها من أحداث. أن تجد مبررا لما قد مر من ألم. "سيكون ممتعا لو تمت كتابته"... أو للانتقام. "سأجعل من هذا الشخص مسخة عندما أكتبه، مثلما جعل مني مسخة أمام الناس.".أو ببساطة. "أريد أن أفهم ما حدث!"...
ولأنك تعودت أن تقف وتشاهد العالم يمر من حولك. تقف أيضا وتشاهده يمر فوقك وتحتك ومن خلالك. لا تكون من أصحاب رد الفعل الأول. تحدث لك أشياء ولا تتدخل فيها، كأنها تحدث وبينك وبينها شاشة. وكأنها لا تحدث معك أنت. بل مع شخصية ستكتشف لاحقا رد فعلها. ستكتشفه كتابه. يتحو العالم إلى فيلم كبير، ستخرجه أنت فيما بعد، على الورق.
لكن أحيانا لا يحدث الأمر هكذا. فقط تكون متعة الحكي هي كل شيء. ليس الرصد والحكي. لكن التخيل والحكي. أن تخترع قصة بأكملها. أن تنشئ وجوداً ما.. أن تكون أنت وحدك صانعه. وتنتصر في هذا الوجود لما يشبهك. لما يقف ويشاهد العالم يمر. كالجمادات أو النباتات.. أن يكون أبطالك من حجر أو عشب أو محار وطحالب. أن يكون سبت الغسيل مثلا شخصية رئيسية. لم لا؟.. ذرة من تراب تكفي لصنع حكاية هنا، ممتعة ومبتكرة. عندما تفعل ذلك، فإنك غالبا ما تعود بنفسك إلى عالمك الطفولي، حيث الحلول الكرتونية كلها متاحة، وحيث خيالك هو المحرك الأوحد لكل شيء.
الأربعاء، 27 يناير 2010
الرواية كيف (2)
(2)
والآن دعوني أفكر. (والحديث هنا للعقل والخيال والواقع والابداع والابتكار، كل معا)، كيف تكتبون رواية. أقصد هنا بغض النظر عن التكنيك الذي يتم استحداث واستجلاب أساليب له كل يوم وتطعيمه بأساليب السيناريو والاخراج، واساليب السرد والحوار والوصف الخ... بغض النظر عن ذلك كله. ما الرواية؟ هناك أشخاص يمكنها أن تكون بشر أو حيوانات أو جمادات أو أي شيء ننسب له سلسلة من الأفعال وردود الأفعال تجاه أشخاص أو حيوانات أو جمادات أو نباتات أخرى.. أو طيور.. أي شيء ممكن يكون شخصية في رواية. لا يقلل هذا من أهمية وجود شخصيات، بل يؤكد على ضرورة حدوث أفعال، حتى ولو كان فعل السرد نفسه، وينبغي أن يكون هناك ردود أفعال، حتى ولو كانت رد فعل القارئ بعد انتهاء العمل الروائي من كتابته ونشره.. الرواية اذا سؤال وإجابة. فعل السؤال، والإجابة رد فعل، ينبغي أن يبدو عفويا، مثلما ننادي شخص فيقول نعم.
لكن الشخصيات من عالم الواقع. والمتوقِع ينبغي أن يخلع عنها لباس الواقع ربما لكي يهديها مجردة إلى الخيال الذي يقيسها بموازين مختلفة تماما. والمتوقِع بالضرورة هو العقل المتابع لواقع ما. واقع بعينه. واقعه الخاص بالضرورة. واقعه المكون من صور متقاطعة لأشخاص وذكريات وأحلام وألوان وإضاءات نهارية وليلية، مقاطع من كتب، لمسات من قماش. العقل في الحقيقة قد يكون المخرج، لكنه تحت التمرين. مثلا، هناك شاب عرفته في فترة شبابي. كان نحيفا وطويلا. الأسماء هنا لا تهم. فلو جردنا الشخص من اسمه لن يؤثر ذلك كثيرا. أتخيل هذا الشخص في سن الطفولة، نحيفا وهزيلا، حسناً، لن يترك له الأطفال أثناء لعبهم لكرة القدم في الحارة سوى دور المشجب ليعلقوا عليه معاطفهم وحقائبهم المدرسية. إنه لن يختلف كثيرا عن ذلك الطفل البدين جداً الذي صنعه خيالي، والذي لأنه بدين جدا، لن يتمكن من الحصول في أحسن الحالات إلا على دور حارس المرمي في هذا المشهد. وسيكون متحسرا ويتمنى لو تمكن مرة من رفع الكره والجري بها، ترقيصها وتمريرها. سيتمنى أن يحرز هدفا.. لكنه لن يفعل في الواقع، أقصد في واقع الرواية. وسيبقى منكسرا تماماً مثل خيالي عن صديقي النحيف وأنا أتخيل طفولته. لكن سيقول البدين لنفسه، على الأقل أنا داخل الملعب. لكنه بالتأكيد سيكون، في رواية تبدأ هكذا، إما الصديق الحميم للطفل النحيل "المشجب" لأنه يحس به، وأيضا لأنه أفضل منه قليلا، مما يجعل البدين يحس إنه على الأقل أفضل من أحدهم. ويكون من مهامة استمرار هذا الأحد في التواجد، لكي يضمن البدين لنفسه ألا يكون في نهاية القائمة. ففي وجود "المشجب" يكون "حارس المرمي" في الموقع قبل الأخير داخل القائمة.
وهناك احتمال آخر، وهو أن حارس المرمي البدين "المصَد" سيكون ألد أعداء "المشجب". ببساطة لأنه الوحيد الأقل منه قيمة، لذا سيكون الوحيد الذي يمكنه أن يمارس عليه سلطة ليثبت لنفسه ولباقية الفريق أنه يشبههم ويسخر من المشجب مثلهم تماما، بل وأكثر منهم. إنه حتى يفوقهم.
هكذا تولد الشخصية ويولد الفعل ورد الفعل. وكلما تعثرت عدت للواقع. عدت لأحاول رد صديقي الذي هو ليس طفلا. والآن صنعت منه "المشجب" و"المصد".....
في الواقع أيضا تحدث هذه الأشياء لكنها تعبر بسرعة الطيف، كرائحة الحساء في الإعلانات. نصنع من هذا الشخص "عكازاً" نتكئ عليه، ومن ذاك "عدسة مكبرة" ترينا أخطاءنا ومشاكلنا، ومن ذاك "حمارا" يركبه فلان ليوصله من نقطة لأخرى في مستقبل حياته. ومن ذاك "طفيلة" يتطفل على كل الفرص المتاحة... الخ الخ.. نبدأ بكود، بدور، تنشأ منه الشخصية وملامحها. دور نعطيه لكل فرد في حياتنا. هذا هو الأب "الوتد" وهذا هو الزوج "السند" وهذا هو الابن "الضنى" الخ الخ. ونبدأ في فهرسة المحيطين وتحويلهم غلي أدوار لنتمكن من تمييز العلاقة بيننا وبينهم.. بل وأحيانا نفعل الشيء نفسه مع أنفسنا. هنا أتذكر عندما كانت أمي تنتهي من تنظيف شاق للبيت ثم تستحم وتضع العطر والمساحيق ثم تجلس على المقعد الوثير لترتاح قائلة بفخر: "ذهبت الشغالة وجاءت الهانم."
الرواية كيف (1)
(1)
لقد قلت كل شيء. لكنني أهدرته في روايات غير مكتملة. لذا، لم يستطع أحد أن يعرف شيئاً. وأنا لن أكمل هذه الروايات. إذ أنها بعد أن قالت كل شيء، لا تريد أن تكتمل كأعمال أدبية.
أحيانا أفكر في حذفها من الكمبيوتر. بالفعل لقد تخلصت من النسخ الورقية منذ زمن. منها بالتمزيق ومنا بالحرق، ومنها بادعاء نسيانها في هذا المطعم أو ذاك المقهى.. بل وأحيانا، مثلما في بعض الأفلام ذات الحنين، تركت أوراقها تتبعثر وتطير، من فوق برج القاهرة.
لذا فأنا لستُ أمام شيء هنا لأكتبه. ولا حتى لأكمله. لكنني أتوقف وأفكر/ لماذا كلما قررت نهائيا حذف ما تبقى من نتف الروايات على هذا الجهاز الالكتروني، اتخاذل. وأبقى في انتظار فايرس مثلا أو أي عامل خارجي ليزيح آخر أثر على أنني كتبتُ، كل شيء. إجابة الوهلة الأولى هي: أنا مقتنعة أن الانتحار حرام! لكن.. ألستُ أنا الكاتبة؟ أي أنا التي تملك متى يموت المكتوب؟
منذ فترة أصبحتُ أكتب كلية على الكمبيوتر. لا أوراق، لا مسودات. في الماضي كانت مسودة بقلم فلان أو مخطوطة بحبره الخاص تساوي الكثير. أظن أن الجيل القادم لن يجد لنا، أبناء هذا الجيل الديجيتاليين، أي أثر مادي ملموس يمكن اعتباره ثمين جدا.... نحن خلعنا عن الكتابة ثوبها الورقي. جردناها تماماً، مثلما جردنا أنفسنا من وقار الكاتب وعالمه المتخيل. نحن أتلفنا في ذاكرة المستقبل، رائحة الورق. نكتب وننشر على الديجيتال. لا نسخ. لا لون وجرامات للورق. لا ورق. هذه فكرة بيئية جداً، إذ أننا لم نعد نسفك دماء الأشجار لنكتب عن الطبيعة! هاها. صارت الرقمية طريقتنا في التطبيع مع الطبيعة الأم التي مورست ضدها مذابح ومذابح منذ الأزل. أنا شخصيا أفضل الحجر عن الشجر. تخيل؟ الكتابة على الحجر. كان هذا يحدث أيضاً وانتهى. دائما تنتهي أشياء لتحل محلها أخرى. وسيكون هناك دائماً أناس مثلي. يحبون ما يتخيلون ولم يشاهدوه. وينعون ما شاهدوه وانتهى، ويأسفون لما سيحدث ولن يشاهدوه. سيكون دائما بشر من هذا النوع، النوستالجيون.
قرأتُ الفقرة السالفة مرة أخرى لأرى الفكرة أوضح. ففوجئتُ بكلمة "تخيل؟".. هذا السؤال. ما زال عندي مساحة إذا للتساؤل. لكن. من الذي أسأل؟ من الموجه إليه السؤال بالتخيل؟ بالطبع ليس للقراء، إذ أن القراء ليسوا فردا واحدا، ومذكر. وأيضا ليس لي، كنت سأقول "تخيلي؟" وليس لقارئ افتراضي، إذ أنني دائما ما نويت النشر أبدا أثناء الكتابة. أظن أن هذا السؤال موجه إلى عقلي. العقل كلمة مذكرة. وأنا أسأله أن يتخيل. أظن هذه هي المسألة: أنني أصبحت أفتقر للخيال. هناك أحداث كثيرة مرهقة في الحياة تجعل الواحد أكثر عملية منه خيالياً. هذا هو الادعاء الذي يزعمه العقل بالحيلة ليبرر افتقاره للخيال. برغم أن أغلب الحلول العملية لمسائل عويصة جدا كانت من صنع الخيال. هكذا يبدأ الابتكار. وهو ابن الخيال والحاجة العملية لاستخدامه في الحياة. الابتكار وليس الابداع، هو نتاج هذه الزيجة. فأنا لم أسمع أحدا ابدا يقول، أريد كتابة ابداعية. يقولون أريد كتابة ابداعية جديدة. الجديد هي الكلمة التي اصطلحوا عليها في الادب لقولوا ابتكار. أما الكلمة نفسها بالعربية فمدعاة للتأمل. ابتكار على وزن افتعال. اصلها بَكَرَ.. ابتكار: افتعال البكارة. ما هذا؟!
أما الابداع فهو العملية التفاعلية التي تحدث بين الخيال ومأزق الواقع العملي. لهذا كلنا نبدع. لكن الكثير مننا في كثير من الأحيان يستخدم واقيا ضد الابتكار. أحيانا يستعمله متوقع الواقع وأحيانا يستعمله متخيل الخيال. الآن فقط صارت الفكرة شيقة. إذ أن الابتكار والابداع لا يحدثان أولا إلا في رحم الخيال. ثم يقرر المتخيل ميلاده أو اجهاضه (أي ميلاده قبل أوان الاكتمال) أو يقرر وأده في أدراج مكتبه، أو قتله، بتمزيقه أو حرقه. حقيقة، أدرك الآن فقط أنني شرانية جدا، لأنني بهذا المنطق فقد مارستُ القتل، والإجهاض، والوأد أكثر مما مارست تربية المبتكَر.
ثم ماذا؟ لا أعرف. أنا هنا لكي أعرف. لأنني لا أعرف. لماذا أريد بعد الحرق والتمثيل بالجثث المادية للمجهضات من رواياتي، أريد أن أمحو أي أثر تجريدي لوجودها. ولماذا أيضا لا أتمكن من فعل ذلك. وأنتظر كارثة طبيعية رقمية لتقوم بفعل الدمار الشامل عني. ألا أملك سلاحاً؟ فقط اضغط على زر الحذف، وتنسف كل شيء. هذا ما أقوله لعقلي. لكنه بما يحويه من خيال، لا يؤمن بانتهاء الروح. ولو ضغط على زر الحذف، كفر.
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)