الأربعاء، 27 يناير 2010

الرواية كيف (2)


(2)

والآن دعوني أفكر. (والحديث هنا للعقل والخيال والواقع والابداع والابتكار، كل معا)، كيف تكتبون رواية. أقصد هنا بغض النظر عن التكنيك الذي يتم استحداث واستجلاب أساليب له كل يوم وتطعيمه بأساليب السيناريو والاخراج، واساليب السرد والحوار والوصف الخ... بغض النظر عن ذلك كله. ما الرواية؟ هناك أشخاص يمكنها أن تكون بشر أو حيوانات أو جمادات أو أي شيء ننسب له سلسلة من الأفعال وردود الأفعال تجاه أشخاص أو حيوانات أو جمادات أو نباتات أخرى.. أو طيور.. أي شيء ممكن يكون شخصية في رواية. لا يقلل هذا من أهمية وجود شخصيات، بل يؤكد على ضرورة حدوث أفعال، حتى ولو كان فعل السرد نفسه، وينبغي أن يكون هناك ردود أفعال، حتى ولو كانت رد فعل القارئ بعد انتهاء العمل الروائي من كتابته ونشره.. الرواية اذا سؤال وإجابة. فعل السؤال، والإجابة رد فعل، ينبغي أن يبدو عفويا، مثلما ننادي شخص فيقول نعم.
لكن الشخصيات من عالم الواقع. والمتوقِع ينبغي أن يخلع عنها لباس الواقع ربما لكي يهديها مجردة إلى الخيال الذي يقيسها بموازين مختلفة تماما. والمتوقِع بالضرورة هو العقل المتابع لواقع ما. واقع بعينه. واقعه الخاص بالضرورة. واقعه المكون من صور متقاطعة لأشخاص وذكريات وأحلام وألوان وإضاءات نهارية وليلية، مقاطع من كتب، لمسات من قماش. العقل في الحقيقة قد يكون المخرج، لكنه تحت التمرين. مثلا، هناك شاب عرفته في فترة شبابي. كان نحيفا وطويلا. الأسماء هنا لا تهم. فلو جردنا الشخص من اسمه لن يؤثر ذلك كثيرا. أتخيل هذا الشخص في سن الطفولة، نحيفا وهزيلا، حسناً، لن يترك له الأطفال أثناء لعبهم لكرة القدم في الحارة سوى دور المشجب ليعلقوا عليه معاطفهم وحقائبهم المدرسية. إنه لن يختلف كثيرا عن ذلك الطفل البدين جداً الذي صنعه خيالي، والذي لأنه بدين جدا، لن يتمكن من الحصول في أحسن الحالات إلا على دور حارس المرمي في هذا المشهد. وسيكون متحسرا ويتمنى لو تمكن مرة من رفع الكره والجري بها، ترقيصها وتمريرها. سيتمنى أن يحرز هدفا.. لكنه لن يفعل في الواقع، أقصد في واقع الرواية. وسيبقى منكسرا تماماً مثل خيالي عن صديقي النحيف وأنا أتخيل طفولته. لكن سيقول البدين لنفسه، على الأقل أنا داخل الملعب. لكنه بالتأكيد سيكون، في رواية تبدأ هكذا، إما الصديق الحميم للطفل النحيل "المشجب" لأنه يحس به، وأيضا لأنه أفضل منه قليلا، مما يجعل البدين يحس إنه على الأقل أفضل من أحدهم. ويكون من مهامة استمرار هذا الأحد في التواجد، لكي يضمن البدين لنفسه ألا يكون في نهاية القائمة. ففي وجود "المشجب" يكون "حارس المرمي" في الموقع قبل الأخير داخل القائمة.
وهناك احتمال آخر، وهو أن حارس المرمي البدين "المصَد" سيكون ألد أعداء "المشجب". ببساطة لأنه الوحيد الأقل منه قيمة، لذا سيكون الوحيد الذي يمكنه أن يمارس عليه سلطة ليثبت لنفسه ولباقية الفريق أنه يشبههم ويسخر من المشجب مثلهم تماما، بل وأكثر منهم. إنه حتى يفوقهم.
هكذا تولد الشخصية ويولد الفعل ورد الفعل. وكلما تعثرت عدت للواقع. عدت لأحاول رد صديقي الذي هو ليس طفلا. والآن صنعت منه "المشجب" و"المصد".....
في الواقع أيضا تحدث هذه الأشياء لكنها تعبر بسرعة الطيف، كرائحة الحساء في الإعلانات. نصنع من هذا الشخص "عكازاً" نتكئ عليه، ومن ذاك "عدسة مكبرة" ترينا أخطاءنا ومشاكلنا، ومن ذاك "حمارا" يركبه فلان ليوصله من نقطة لأخرى في مستقبل حياته. ومن ذاك "طفيلة" يتطفل على كل الفرص المتاحة... الخ الخ.. نبدأ بكود، بدور، تنشأ منه الشخصية وملامحها. دور نعطيه لكل فرد في حياتنا. هذا هو الأب "الوتد" وهذا هو الزوج "السند" وهذا هو الابن "الضنى" الخ الخ. ونبدأ في فهرسة المحيطين وتحويلهم غلي أدوار لنتمكن من تمييز العلاقة بيننا وبينهم.. بل وأحيانا نفعل الشيء نفسه مع أنفسنا. هنا أتذكر عندما كانت أمي تنتهي من تنظيف شاق للبيت ثم تستحم وتضع العطر والمساحيق ثم تجلس على المقعد الوثير لترتاح قائلة بفخر: "ذهبت الشغالة وجاءت الهانم."

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق