(1)
لقد قلت كل شيء. لكنني أهدرته في روايات غير مكتملة. لذا، لم يستطع أحد أن يعرف شيئاً. وأنا لن أكمل هذه الروايات. إذ أنها بعد أن قالت كل شيء، لا تريد أن تكتمل كأعمال أدبية.
أحيانا أفكر في حذفها من الكمبيوتر. بالفعل لقد تخلصت من النسخ الورقية منذ زمن. منها بالتمزيق ومنا بالحرق، ومنها بادعاء نسيانها في هذا المطعم أو ذاك المقهى.. بل وأحيانا، مثلما في بعض الأفلام ذات الحنين، تركت أوراقها تتبعثر وتطير، من فوق برج القاهرة.
لذا فأنا لستُ أمام شيء هنا لأكتبه. ولا حتى لأكمله. لكنني أتوقف وأفكر/ لماذا كلما قررت نهائيا حذف ما تبقى من نتف الروايات على هذا الجهاز الالكتروني، اتخاذل. وأبقى في انتظار فايرس مثلا أو أي عامل خارجي ليزيح آخر أثر على أنني كتبتُ، كل شيء. إجابة الوهلة الأولى هي: أنا مقتنعة أن الانتحار حرام! لكن.. ألستُ أنا الكاتبة؟ أي أنا التي تملك متى يموت المكتوب؟
منذ فترة أصبحتُ أكتب كلية على الكمبيوتر. لا أوراق، لا مسودات. في الماضي كانت مسودة بقلم فلان أو مخطوطة بحبره الخاص تساوي الكثير. أظن أن الجيل القادم لن يجد لنا، أبناء هذا الجيل الديجيتاليين، أي أثر مادي ملموس يمكن اعتباره ثمين جدا.... نحن خلعنا عن الكتابة ثوبها الورقي. جردناها تماماً، مثلما جردنا أنفسنا من وقار الكاتب وعالمه المتخيل. نحن أتلفنا في ذاكرة المستقبل، رائحة الورق. نكتب وننشر على الديجيتال. لا نسخ. لا لون وجرامات للورق. لا ورق. هذه فكرة بيئية جداً، إذ أننا لم نعد نسفك دماء الأشجار لنكتب عن الطبيعة! هاها. صارت الرقمية طريقتنا في التطبيع مع الطبيعة الأم التي مورست ضدها مذابح ومذابح منذ الأزل. أنا شخصيا أفضل الحجر عن الشجر. تخيل؟ الكتابة على الحجر. كان هذا يحدث أيضاً وانتهى. دائما تنتهي أشياء لتحل محلها أخرى. وسيكون هناك دائماً أناس مثلي. يحبون ما يتخيلون ولم يشاهدوه. وينعون ما شاهدوه وانتهى، ويأسفون لما سيحدث ولن يشاهدوه. سيكون دائما بشر من هذا النوع، النوستالجيون.
قرأتُ الفقرة السالفة مرة أخرى لأرى الفكرة أوضح. ففوجئتُ بكلمة "تخيل؟".. هذا السؤال. ما زال عندي مساحة إذا للتساؤل. لكن. من الذي أسأل؟ من الموجه إليه السؤال بالتخيل؟ بالطبع ليس للقراء، إذ أن القراء ليسوا فردا واحدا، ومذكر. وأيضا ليس لي، كنت سأقول "تخيلي؟" وليس لقارئ افتراضي، إذ أنني دائما ما نويت النشر أبدا أثناء الكتابة. أظن أن هذا السؤال موجه إلى عقلي. العقل كلمة مذكرة. وأنا أسأله أن يتخيل. أظن هذه هي المسألة: أنني أصبحت أفتقر للخيال. هناك أحداث كثيرة مرهقة في الحياة تجعل الواحد أكثر عملية منه خيالياً. هذا هو الادعاء الذي يزعمه العقل بالحيلة ليبرر افتقاره للخيال. برغم أن أغلب الحلول العملية لمسائل عويصة جدا كانت من صنع الخيال. هكذا يبدأ الابتكار. وهو ابن الخيال والحاجة العملية لاستخدامه في الحياة. الابتكار وليس الابداع، هو نتاج هذه الزيجة. فأنا لم أسمع أحدا ابدا يقول، أريد كتابة ابداعية. يقولون أريد كتابة ابداعية جديدة. الجديد هي الكلمة التي اصطلحوا عليها في الادب لقولوا ابتكار. أما الكلمة نفسها بالعربية فمدعاة للتأمل. ابتكار على وزن افتعال. اصلها بَكَرَ.. ابتكار: افتعال البكارة. ما هذا؟!
أما الابداع فهو العملية التفاعلية التي تحدث بين الخيال ومأزق الواقع العملي. لهذا كلنا نبدع. لكن الكثير مننا في كثير من الأحيان يستخدم واقيا ضد الابتكار. أحيانا يستعمله متوقع الواقع وأحيانا يستعمله متخيل الخيال. الآن فقط صارت الفكرة شيقة. إذ أن الابتكار والابداع لا يحدثان أولا إلا في رحم الخيال. ثم يقرر المتخيل ميلاده أو اجهاضه (أي ميلاده قبل أوان الاكتمال) أو يقرر وأده في أدراج مكتبه، أو قتله، بتمزيقه أو حرقه. حقيقة، أدرك الآن فقط أنني شرانية جدا، لأنني بهذا المنطق فقد مارستُ القتل، والإجهاض، والوأد أكثر مما مارست تربية المبتكَر.
ثم ماذا؟ لا أعرف. أنا هنا لكي أعرف. لأنني لا أعرف. لماذا أريد بعد الحرق والتمثيل بالجثث المادية للمجهضات من رواياتي، أريد أن أمحو أي أثر تجريدي لوجودها. ولماذا أيضا لا أتمكن من فعل ذلك. وأنتظر كارثة طبيعية رقمية لتقوم بفعل الدمار الشامل عني. ألا أملك سلاحاً؟ فقط اضغط على زر الحذف، وتنسف كل شيء. هذا ما أقوله لعقلي. لكنه بما يحويه من خيال، لا يؤمن بانتهاء الروح. ولو ضغط على زر الحذف، كفر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق